الخرطوم فى مستنقع التطبيع
محمد عصمت
آخر تحديث:
الإثنين 2 نوفمبر 2020 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
كما هو متوقع، سقطت الخرطوم عاصمة اللاءات الثلاث «لا سلام.. لا اعتراف.. لا تفاوض» فى وحل التطبيع مع إسرائيل، فى خطوة لا يمكن اعتبارها إلا أنها المسمار الأخير فى نعش النظام العربى الذى هيمن على الخطاب العربى منذ الخمسينيات بشعارات قومية براقة، إلى أن وصل إلى حالته المزرية الراهنة بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات والهزائم على كل الجبهات!
صحيح أن هناك عواصم عربية أخرى تتزاحم ــ وإن على استحياء ــ فى طابور التطبيع، لكن السودان له أهميته القصوى ودلالاته الخطيرة فى هذا الملف، فهو البلد العربى الوحيد الذى قدم للنظام العربى انتخابات نيابية نزيهة، ونموذجا للحكم يتمتع بقدر كبير من الحريات العامة، لكنه تعرض للنبذ الذى وصل فى كثير من الأحيان إلى حالة من العداء الخفى من بعض الأنظمة العربية لتغلق الطريق على انتشاره فى الدول العربية!
كما انه البلد العربى الذى يمتلك إمكانيات زراعية ضخمة وصفتها المصادر الأكاديمية العالمية بأنها يمكن أن تجعل السودان سلة غذاء العالم، ومع ذلك فقد تقاعست الدول الثرية العربية عن الاستثمار فيه، وفضلت وضع ثرواتها المالية فى البنوك الغربية، حتى وصلت الأزمات المعيشية فيه إلى حد المجاعات فى الكثير من مناطقه فى نهايات القرن الماضى، وإلى اختفاء الخبز والوقود من أسواقه فى وقتنا الراهن.
وحتى عندما تعرض السودان إلى حصار اقتصادى أمريكى بعد وضعه فى قائمة الدول الراعية للارهاب، لم تفعل الدول العربية شيئا يذكر لمساعدة الشعب السودانى على مواجهة أزماته المعيشية المتفاقمة، لم تضغط على أمريكا لكى تبحث عن مخرج للأزمة مع السودان، وأيضا بعد سقوط البشير وقيام نظام ديمقراطى تعددى، لم تحرك هذه الدول ساكنا لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتركته فريسة للابتزاز الأمريكى لفرض التطبيع مع إسرائيل عليه.
قطاعات واسعة من الشعب السودانى أصبحت ترى فى إسرائيل الحل الوحيد لخروج بلادهم من الأزمات المعيشية التى يكابدونها، وهو ما استثمره سياسيا بشكل مكشوف الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الحاكم فى وعراب التطبيع الأول فى السودان، فالتقى منذ عدة شهور مع نتنياهو فى أوغندا، واتفق معه على بدء استئناف العلاقات بين البلدين، دون أن يتشاور مع قوى الحرية والتغيير «قحت» التى أشعلت الثورة ضد البشير، والتى تعيش الآن أضعف حالاتها السياسية بعد أن دبت الخلافات بين مكوناتها، وهو ما يمكن اعتباره رهان من البرهان على أمريكا وإسرائيل لتضمن بقائه فى الحكم، أو حتى تأييد قيامه بانقلاب عسكرى أبيض على شركائه فى الحكم إذا لزم الأمر!
باستثناء الأحزاب الناصرية والبعثية والشيوعية التى ترفض التطبيع بشكل مبدئى، على اعتبار ان إسرائيل لن تسمح بوجود أى دولة قوية قد تنافسها على زعامة الاقليم أو حتى تعارض مخططاتها للسيطرة على موارده، وأنها تخطط لتقسيم السودان إلى دويلات متناحرة، فإن كل القوى السياسية الأخرى بما فيها حزب الأمة لم تعترض على التطبيع من حيث المبدأ، بل أن بعضها أيده والآخرون تحفظوا على شروطه وتسارع وتيرته لا أكثر!
المؤكد أن قطار التطبيع سيصل قريبا إلى العديد من العواصم العربية، ليدهس فى طريقه كل مؤسسات العمل العربى المشترك، وكل مقررات القمم العربية، وكل شعارتنا القومية القديمة، دون أن تهتز شعرة واحدة فى رأس هذه العواصم، ودون أن تضع خططا بديلة لتصوراتها حول مستقبل الإقليم، ودون أن تضع فى حساباتها ــ وهو الأهم ــ قنبلة موقوتة اسمها الحقوق الشرعية الشعب الفلسطينى!