تغيرت النساء وأنا منهن
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 نوفمبر 2021 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
وعدتك أن آتى إليك إذا تكرر ضيق صدرى ولم يعد إلى رحابته التى كنت تشيد بها وتطمئن إليها. الآن، يا صديقى، تجاوز الأمر حدود قوة احتمالى. صار الضيق مزمنا والملل خانقا، حتى الزواج وكان فى حساب أهل زمان موئل حب وحنان صار فى واقعنا، أنا وهو، أقصد زوجى، عش تعاسة. تعرف عنى الكثير، تعرف عنى بعضا مما تعرفه عن جنس عموم النساء. تعرف عنى، عن تاريخى، عن طباعى، عن طفولتى الموجزة وشقاوتى المبكرة، تعرف عن مراحل نضجى ومصادر تجاربى وخبراتى ما لا يعرفه ولن يعرفه غيرك. تعرفنى فى جميع حالاتى ولكن لم تعرفنى تعيسة.
طلبت من زوجى أن يأتى معى. رفض متعللا بأسباب واهية. أعرف أنه يحترم رأيك فى كثير من الهموم والقضايا الشائكة. أظن أنه رفض لأنه ربما أحس باقتراب نهايتنا كزوجين. سبقنى فى الوصول إلى هذه القناعة. ولعله لا يريد أن يعود من عندك مترددا فى قراره إنهاء علاقتنا. الغريب أننا لم نتفق على قرار لسنوات ربما باستثناء هذا القرار. تسألنى بطبيعة الحال عن دافعى للتحدث معك. جئت لأننى اخترتك طرفا فى حياتى أعمل له ألف حساب. أما وقد حافظت لك على هذا الموقع فى حياتى ففى ظنى أننى يجب أن أطلعك على جانب أو أكثر مما دار بيننا أنا وزوجى من حوارات فى الفترة الأخيرة من زواج يقترب من نهايته.
•••
جلسنا وفى يد كل منا «محموله» يقلب صفحاته أو هكذا بدا لى ما نفعل جريا على عادة قديمة حين كان كل منا يمسك بجريدة أو مجلة أو كتاب يخفى به وجهه عن الآخر. فى تمام السابعة مساء أزحت محمولى جانبا وتوجهت نحوه بالكلام. قلت بلهجة تجمع بين الأمر وشيء من الود، «أزح هذا المحمول اللعين جانبا. قم خرجنى. ضع قميصا نظيفا عليك وحذاء على قدميك وتعال نخرج من البيت. لقد نال منى الزهق والملل. أنا لم أخرج إلى الشارع منذ أن استدعتنى مديرة المدرسة لتشكو لى بعض سلوك ابنك. طبعا أنت لا تذكر. نقلت لك ما دار بينى وبين المديرة وما زلت غير واثقة إن كنت تنصت بدليل أنك اكتفيت بهز الرأس. لم تكلف نفسك أو محمولك عناء إبداء الاهتمام وإلا لانفصلتما أنت والمحمول ليسمعنى أحدكما. هو ابنك أليس كذلك؟ من فضلك كلمنى. أنا بشر. اخفض هذا التليفون الملعون وانظر فى وجهى حين أتكلم».
تكلم فقال «هل لاحظت أنه فى السابعة من مساء كل يوم تقررين إثارة شجار بيننا. تختارين دائما موضوع خروجنا. تعلمين أننى أعود من العمل منهكا. حاجتى الملحة، كحاجة أى رجل فى مثل ظروف عملى، الراحة والاسترخاء فى بيت يسود فيه الهدوء. إن لم يكن الخروج فبديله الاستفسار عما فعلت طول اليوم. أجيبك.. كنت أشتغل. فتطلبين منى أن أحكى لك عما دار وما سمعت. تعرفين أننى أكره الحديث عن العمل بعد الانتهاء منه والعودة إلى البيت. كلمنى، هى إحدى كلماتك المفضلة منذ أن حذرتك من أنها الكلمة التى تستفزنى أكثر من أى كلمة أخرى فى قاموس كلماتك. هل اتفقنا عندما تزوجنا أن تكون من وظائفى كزوج اصطحابك للنزهة أو أن أتكلم وقت ما تشائين.
قاطعته لأقول «هذه كانت وظيفتك عندما كنا مخطوبين وقبلها عندما كنا نناقش حاجتنا لعلاقة تستمر أبدا. وقتها كنت تجيد كلام الحب وممارساته وأخلاقياته. أين ذهب حبك. أين الموسيقى التى كنت تهديها لى عبر الإذاعة وعلى اليوتيوب؟ أين اختياراتك الرائعة من أغانى الحب؟ أين غرامك بالتسكع فى شوارع القاهرة القديمة حتى خلقت منى خبيرة فى آثار المماليك وتقاليدهم ونظرتهم للحياة والخلود أيضا؟ هل تذكر كيف كنت تسبقنى إلى السيارة لتفتح لى الباب، ما أسعد امرأة يفتحون لها الأبواب ويعلقون مرورا بذراعها وكتفها وصدرها حزام الأمان، ومع اقتراب كل مطب وحفرة فى الطريق تمتد يد عاشقة، لتحمى صدرها من غدر الطريق ومفاجآته!. اعترفت لى أنك عرفت قبلى نساء كثيرات لكنك اخترتنى لعلاقة أطول. كنت فخورة بأن رجلا مثلك ظننت أنه مختلف عن كل الرجال فى أناقته وذكائه ودرايته بأصول الحب الحر ومسئولياته وحقوقه يعرض على امرأة من نوعى وخلفيتى علاقة حب طويلة خالية من التعقيدات. كلانا أخطأ عندما خضعنا لضغوط متنوعة فتزوجنا. نعم أعترف وأتحمل نصيبى من المسئولية. أعرف أنك استجبت للضغوط حبا وصدقا. كنا صادقين وكانوا، وأقصد الضاغطين، مخطئين. ظنوا أن الزواج الوسيلة المثلى لتحقيق حلم الحب الدائم، حلم الآباء المؤسسين منذ آدم، أليس من دواعى السخرية أن آدم، عليه السلام، كان أول من فشل من الرجال فى تحقيق هذا الحلم وأول من خرج من الجنة».
•••
قاطعنى زوجى بإشارة من يده وقال «نعم. أذكر جيدا. أذكر أيضا أنك خضعت للضغوط قبل أن أسايرك وأخضع. كلانا دفع الثمن غاليا. دفعناه من أغلى وأحلى تجربة مررنا بها فى حياتنا. كنا نعرف قيمة الحب. خفنا عليه أن يتغير. لم يشعر أحدنا بملل فى أى يوم من أيامه. كانت تجربتنا أشبه شيء بالحياة داخل بستان رائع أحطناه بسياج كثيف من العواطف والمشاعر حماية لروعته وجماله من نوايا الدخلاء، أو كانت شبيهة بمعزوفة موسيقية ألفناها معا وخفنا عليها من نغمة أو نغمات نشاز تصدر عن ثقلاء لم يجربوا يوما العزف على قيثارة حب».
استطرد يسأل: «لماذا تغيرت علاقتنا.. أنت تغيرت قبل أن أتغير».
وضعت المحمول جانبا وتأهبت لجدال لم نمسه من قبل إلا من بعيد. قلت «نعم هذا صحيح. تعرف لماذا أنا تغيرت قبلك. تغيرت لأنى توقفت عن أداء دور العذراء الناعمة. توقفت عن أداء دور امرأة فى طور التكوين، دور الثمرة التى تفتحت على الغصن، وعاشت تنتظر من يقطفها قبل أن يلقى الزمن بها ورغما عنها على الأرض أو يتركها للريح تعصف بأوراقها ورقة بعد ورقة. تغيرت حين أدركت أن مهمتى معك مؤقته كقمر مكتمل فى كبد السماء يتحرك ببطء شديد وحذر بالغ نحو مصير محتوم. ما أكثر ما سمعت تشبيهى بقمر أربعة عشر، وكنت أنت شاهدا. كنت أعرف أن كلانا، القمر المكتمل وأنا، لن يبقى طويلا على حاله. وإن بقى فلن تكون أنت موجودا، وهذا حقى».
«لا أخفيك أننى كزوجة تغيرت حرصا منى على ألا تفاجئنى بتغيرك، تغييرا كنت واثقة من أنه قادم لا شك فى ذلك. سمعت عنك ثم عرفتك رجلا قلوقا لا تثبت على وضع أو مشاعر. جعلتنى بهذه الصفات امرأة تستعد لتحديات لا قبل لها بها. أقبلت على التجربة بإرادة حديدية، إرادة امرأة لا تقبل الفشل». وصفتك ذات مرة لصديق يكبرنى ويرعانى بالنصيحة والمشورة. قلت أنا أمام رجل فتوحات أراه أحيانا فى ثياب الإسكندر المقدونى. ما إن يرى بلدا بصفات بديعة إلا ودخلها فاتحا، أقسمت وقتها، ولعلك تذكر، أننى ما كنت لأسمح للإسكندر الفاتح العظيم بنصر سهل وإقامة سعيدة سرعان ما يتركنى بعدها لجنرالاته يحكمون ويتحكمون. أخطأت فى الحساب وفى التوقعات. نسيت القاعدة التى تقول إن أنت قمعت بطلا من أبطال وعشاق الفتوحات فأنت بالتأكيد سوف تخسرينه زوجا يعرف كيف يحب ويعشق. عرفت بعد البداية بقليل أن البطل الفاتح لن يستقر له حال أو قرار، وإن الحب فى قلبه سوف يتسرب قطرة بعد قطرة ولن يبقى فى القلب إلا عناد القائد المهيمن الجبار. هذا هو ما حدث. أراك أيها الزوج وقد عدت إلى نموذج تكرهه الزوجات لأنه يقتل فيهن الحب. أنت رجل آخر غير الرجل الذى طلب صادقا أو واهما أن تكون علاقة الحب بيننا أبدية ورفيعة. أراك الآن متقمصا شخصية وطباع الرجل نفسه الذى سام المرأة عبر العصور القمع والظلم وعذاب الغيرة. أرانى اليوم مختلفة عن المرأة التى قابلتها وكدت تجثو أمامها راكعا أن تقبلك عاشقا».
انتهت ساعة الجدال ونهضت لأجلس فى غرفتى وقطرات دمع تتجمع فى عينىَّ شئت ألا يراها.
•••
يا صديقى. هل يستحق هذا الزواج إنقاذه؟ أرجوك ساعدنى فى الإجابة عن هذا السؤال وأمور أخرى ما زالت تحيرنى. من منا الذى تغير، تغيرت النساء وأنا منهن، أم تغير الرجال وزوجى أحدهم، أم تغير الزمن فتغيرنا؟.