نظرة على الحرب من أعلى إلى أسفل
معتمر أمين
آخر تحديث:
السبت 2 نوفمبر 2024 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
إليكم هذه القصة القصيرة، كان الاتحاد السوفيتى أكبر مورد للبترول فى العالم، وإمداداته تعتبر عنصرا أساسيا فى توريد الطاقة إلى أوروبا الغربية، حتى فى أوج الحرب الباردة. ومع نهاية سبعينيات القرن الماضى، احتاج قطاع الطاقة السوفيتى إلى إحلال وتجديد المضخات لأن قدرتها على الضخ ضعفت وأصبحت غير كافية لتلبية الطلب المتزايد من الأسواق. هنا فطنت المخابرات المركزية الأمريكية للتداعيات المحتملة على الاقتصاد السوفيتى، الذى دخل لتوه فى حرب مفتوحة فى أفغانستان عام 1979، إضافة لاندلاع حرب شرسة فى حزامه الجنوبى بين إيران والعراق بحلول عام 1980، والاثنتان بحاجة إلى السلاح، ولم يستطع الاقتصاد السوفيتى تلبية كل هذه الاحتياجات بينما تنخفض عوائده من البترول.
صعّدت المخابرات المركزية الأمريكية الموقف وعطلت صفقة شراء المضخات من ألمانيا الغربية، ولم تفلح كافة المحاولات السوفيتية للخروج من المأزق، ومن ثم انكمش الاقتصاد السوفيتى مع استمرارية الحرب فى أفغانستان. وكانت هذه العثرة الاقتصادية من أكبر أسباب سقوط الاتحاد السوفيتى فى غضون أعوام. على التوازى فقد الاتحاد السوفيتى قدرته على التأثير فى مجريات الحرب الإيرانية العراقية، حتى لجأ الطرفان إلى السلاح الأمريكى. ونجحت الولايات المتحدة فى استنزاف مواطن الضعف السوفيتية وزيادة الفجوة بينه وبين حلفائه. وكان بوسع الاتحاد السوفيتى حل هذه المعضلة عن طريق الإنفاق على البحث العلمى من أجل زيادة إنتاج المضخات، ولكنهم لم يفعلوا حتى انهار الاقتصاد السوفيتى.
• • •
الآن نقفز إلى الوقت الراهن بعد الضربات الإسرائيلية على إيران، ونلاحظ بعض التشابه بين ما جرى فى السابق وما يجرى حاليا. حيث نجحت الضربة الإسرائيلية فى تحييد العديد من منصات الدفاع الجوى الإيرانية الروسية الصنع وأهمها إس-300، والتى لا تستطيع إيران تعويضها بسرعة، بالرغم من قدرتها المالية على الشراء. وذلك لأن عملية الاستبدال تعتمد على التوريد من روسيا، والأخيرة تستطيع إنتاج هذه المنظومة بسرعة واستبدالها فى وقت قياسى، لكن هذه الخدمة توفرها لجبهتها الداخلية لاسيما فى ظل حربها ضد أوكرانيا بالاسم والناتو بالفعل. لذلك أى إمداد من هذا النوع إلى دولة فى الخارج - حتى لو كانت إيران - لا يعتبر عملية تلقائية تخضع لحسابات الصفقات، وإنما لابد من توجيه سياسى يحسم الأمر. وبالرغم أن الجهد الحربى الروسى يعتمد كثيرا على المصانع الإيرانية، لاسيما فى مجال الصواريخ الباليستية، والمسيرات، التى بدونها لتأخر الموقف فى شرق أوكرانيا، لكن لم تسارع روسيا حتى الآن لاستبدال منظومات الدفاع الجوى الإيرانى.
استمرار هذا الموقف يساهم فى خلق مسافة بين روسيا وإيران، تستعملها الولايات المتحدة على مستويين؛ الأول خلق حالة من عدم الثقة بين إيران ووكلائها بالمنطقة. والثانى، منح إسرائيل الفرصة لاستكمال مخططاتها والوصول إلى نهر الليطانى فى لبنان وطرد حزب الله إلى الشمال مهما كان الثمن. لكن لا يبدو أن إمكانيات جيش الاحتلال البرية قادرة على مقارعة المقاومة اللبنانية، ويتبين من سير المعارك أن الأمر بحاجة إلى شهور وليس لأسابيع كما كان متصورا بعد اغتيال الصفوف الأولى من قيادات المقاومة العسكرية والسياسية.
فى سياق متصل، تنتهج الولايات المتحدة استراتيجية مشابهة لتعطيل إمدادات الأسلحة الصينية إلى إيران حتى لا تعوض التباطؤ الروسى. علما بأن الصين هى أكبر مستورد للنفط الإيرانى الذى يخضع «صوريا» للعقوبات الأمريكية، وتشتريه بسعر مميز أقل من الأسواق. والولايات المتحدة تغض الطرف عن هذه الصفقات لأنها تريد تخفيض سعر البترول الذى يؤدى ارتفاعه إلى زيادة التضخم بالأسواق الغربية وزيادة الغضب الشعبى، مما يضر باستراتيجية الغرب فى مواجهة روسيا. وبدورها تريد الصين الحفاظ على إمدادات النفط الإيرانية، فالإضرار به إضرار مباشر بالاقتصاد الصينى، ولذلك «قد» تتباطأ الصين فى توفير منظومات الدفاع الجوى لإيران، ليس لأنها تريد إيران مستباحة أمام سلاح الجو لجيش الاحتلال الإسرائيلى، ولكن لأنها تريد تعطيل إيران عن المضى قدما فى التصعيد المتبادل مع إسرائيل والذى حتما سيؤثر على إنتاج النفط ويرفع سعره عالميا.
لقد اختبرت الصين بالفعل كيف تؤثر الحرب الدائرة فى المنطقة على مصالحها، ففجأة تأثر طريق الحرير البحرى بسبب هجمات أنصار الله فى اليمن ضد السفن المتعاملة مع إسرائيل، بينما فى ذات الوقت، نشط الطريق البرى الواصل بين بعض موانئ المنطقة وبين إسرائيل ، وهو الطريق الذى يعتبر الوصلة البرية لممر الهند - أوروبا. وفهمت الصين الرسالة.
• • •
لكن كيف تطور إيران منظومة نووية متكاملة، ومنظومة صواريخ باليستية هائلة، ومنظومة تصنيع للمسيرات تشهد لها جبهة أوكرانيا، وفى ذات الوقت لم تطور منظومة دفاع جوى متقدمة؟ إيران طورت بالفعل منظومة دفاع جوى، ولكنها بحاجة إلى مزيد من التطوير للتصدى للطائرات من الجيل الخامس، مثل إف-35 التى تصنع موجة تعتيم رادارى تسمح لها باختراق الأجواء التى تريد استهدافها. ولذلك، من المستبعد أن ترد إيران على هجوم إسرائيل الأخير، وقد تتراخى فى الدفاع عن لبنان بطريقة فعالة.
وهذا ما يمنح إسرائيل الوقت لتنفيذ استراتيجيتها فى لبنان إن استطاعت. وقد يساعدها فى الوقت الراهن تأثير الغارة الأمريكية على مخازن الحوثيين فى باطن الجبال باستعمال الطائرات الشبحية بى - 2 التى قللت من قدرتهم على استهداف إسرائيل، بدون رفع أيديهم عن باب المندب! ولقد وصلت الرسالة إلى إيران التى أنشأت مفاعلاتها النووية فى باطن الجبال أيضا. ومن ثم، يبدو أن تأثير جبهات الإسناد وإن استمر، ولكنه بحاجة إلى الوقت ليستعيد العافية.
• • •
إذن نحن أمام مشهد تقوم فيه الولايات المتحدة بتفرقة محور المقاومة، وتفكيك جبهات الإسناد، وتعطيل سلاسل الإمداد الدولية، وتحييد أى ضغط عربى، وذلك عن طريق أدوات أهمها الأوراق الاقتصادية التى تبرع المخابرات المركزية الأمريكية فى استعمالها. فى المقابل، تفتح مخازنها لإسرائيل بلا حدود لتأخذ منها ما تشاء، بالقدر الذى تريده، وفى الوقت الذى تحتاجه، مهما كانت نوعية السلاح. وبدون هذا الدعم، والإمداد، والحماية المباشرة لما استطاعت إسرائيل الاستمرار على النحو الذى نشاهده فى حرب الإبادة الجماعية.
من فضلكم أعيدوا قراءة الفقرة السابقة مرة أخرى ثم أجيبوا على السؤال التالى، لماذا تحتاج إسرائيل لكل هذا الدعم فى مواجهة ميليشيات المقاومة، وكيف لم تنتصر عليهم حتى الآن بعد مرور سنة وشهر؟
إذا كانت قدرة إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة عاجزة حتى الآن عن تحقيق أهدافها فى حرب مفتوحة بلا أى ضوابط، فكيف يحلم اليمين الإسرائيلى بتنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى؟ وإذا عجزت كل هذه الإبادة، وقتل معظم قيادات المقاومة فى تغيير الموقف الاستراتيجى لصالح إسرائيل، فمتى يتم التهجير؟ وإذا كانت الولايات المتحدة ناجحة حتى الآن فى ضبط تفاعلات المنطقة العربية، التى تشاهد ولا تشارك، فهل تتوقع استمرار الأمر على هذا النحو حتى تنجز إسرائيل الإبادة فى غزة، والتهجير فى لبنان؟