خواطر عن أم كلثوم .. بعد ستين عامـًا
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 ديسمبر 2014 - 8:55 ص
بتوقيت القاهرة
كنت فى صباى مولعا أشد الولع بأغانى أم كلثوم.
كان اسم أم كلثوم وقتها على كل لسان، ويعتبر ظهور أغنية جديدة لها حدثا يضارع فى أهميته الأحداث السياسية. لا أذكر بالضبط متى بدأ هذا الولع من جانبى، ولكننى أذكر جيدا الأثر القومى الذى أحدثته فى نفسى أغنية «سلوا قلبى» فى أواخر الأربعينيات، إذ أخذتُ أغنيها لنفسى وأرددها، وحفظت كلماتها ولحنها عن ظهر قلب. وعندما اشترى لى أبى كمانا قديما لأبدأ تعلم العزف عليه، علمت نفسى كيف أعزف مقاطع منها. لم يكن عزفى جيدا قط، بحيث يجذب اهتمام أى فرد فى العائلة أو خارجها، ولكن هذا لم يمنعنى من العزف لنفسى، ولابد أننى كنت أحصل على درجة كافية من السرور مما أفعل.
أذكر أيضا إعجابى الشديد بعد ذلك بأغنية «يا ظالمنى»، التى ظهرت فى 1954، أى منذ ستين عاما بالضبط، وبتلحين رياض السنباطى أيضا. وكانت أغنية سهلة فى كلماتها ولحنها، وكان المقطع الذى يتكرر فى نهاية كل فقرة من الأغنية ينتهى بنهاية «أو قفلة» مثيرة، كان لابد أن تستدر من الناس التصفيق والتهليل، فما أكثر ما رددت هذه الأغنية لنفسى أيضا.
•••
كنت فى ذلك الوقت فى التاسعة عشرة من عمرى، ومرت سنوات أخرى كثيرة، ثم حدث وأنا فى التاسعة والسبعين من عمرى، أن سمعت أثناء وجودى فى سيارة تاكسى مذيعا فى الراديو يعلن أننا سنستمع الآن إلى أغنية «يا ظالمنى» لأم كلثوم. فرحت بشدة وتيقظت حواسى استعدادا لأن أسمع من جديد ما كان يجلب لى كل تلك النشوة وأنا فى سن المراهقة. هل حقا مر ما يقرب من ستين عاما لم أسمع خلالها قط هذه الأغنية التى كنت مغرما بها لهذه الدرجة؟ ولا حتى خطرت ببالى طوال هذه الفترة؟
استمعت إلى الأغنية بإصغاء تام، فإذا بى أفاجأ بعدة مفاجآت. فاللحن بدا لى الآن بسيطا وعاديا، ليس فيه تفوق ملحوظ فى القدرة على التعبير عن عواطف أو إثارة المشاعر، لابد أن نجاح الأغنية فى النصف الثانى من الخمسينيات، لم يكن يرجع إلى جمال اللحن بقدر ما يرجع إلى «جماهيريته»، أى اعتماده على استدرار الإعجاب بالنهايات الدرامية لكل فقرة. ولكن المفاجأة الأكبر كانت تتعلق بكلمات الأغنية. كيف لم ألحظ وأنا فى التاسعة عشرة من عمرى، غرابة المشاعر التى تعبر عنها الكلمات، بما تحمله من ذل زائد على الحد من جانب الرجل لمحبوبته «أو المرأة لحبيبها»؟ بل وكيف لم يلحظ مؤلف الأغنية، أحمد رامى، مع ذكائه الشديد، أن نوع الحب الذى تعبر عنه الكلمات أقرب إلى المرض منه إلى العاطفة السوية بين المحبين؟ انظر كيف تبدأ الأغنية:
يا ظالمنى يا هاجرنى وقلبى من رضاك محروم
تـلوعنـى وتكوينـى تحيـــرنـى وتضــنـينـى
ولما أشكى تخاصمنى وتغضـب لمـاأقولـك يوم
يا ظالمنى!
ولكننى تذكرت كيف كان حال الشباب فى مصر منذ ستين عاما. كان الحب فى العادة من طرف واحد، ومن النادر أن توجد فرصة للتعبير عنه صراحة. والفتاة تتعمد الدلال إلى درجة إذلال محبيها أملا فى أن يتشجع أحدهم فيطلبها للزواج، الذى كان يعتبر النهاية المحتومة لكل حب. والحرمان الشديد الذى كان يعذب الشبان و«الشابات أيضا» كان لابد أن ينتج عنه تحمل هذه المعاناة المهنية من جانب أحد الطرفين للآخر. كان أحمد رامى فيما يبدو يعبر إذن عن عواطف حقيقية، وإن كانت سقيمة، سادت فى ظل معاملة المرأة كالسجينة، فى بيت أبيها قبل الزواج، وربما أيضا فى بيت زوجها بعد ذلك، ثم انتقل ذهنى بسرور إلى حالة «الحب» الآن، بعد التحرر النفسى والعقلى الذى حققته الفتاة المصرية خلال نصف القرن الماضى، والذى ساهم فيه انتشار تعليم الإناث، وزيادة فرص العمل المتاحة لهم إلى جانب الرجل فى الحكومة والشركات، وما ترتب على تيار الهجرة إلى الخليج من اضطرار المرأة إلى القيام بأعمال كانت مقصورة على الرجل، فضلا عن ارتفاع معدل التضخم الذى جعل الزواج من المرأة العاملة أمرا شائعا ومطلوبا. سألت نفسى عما يمكن أن يكون شعور الشاب المصرى أو الشابة الآن إذا انتبه إلى كلمات أغنية يا ظالمنى «بل إلى عنوانها نفسه».
هل يقبل أحدهما الآن أن «يلوعه» الآخر على هذا النحو، وأن يكويه ويحيره ويضنيه.. الخ؟ أم أن الطرف «المظلوم» سوف يرفض بإباء وشمم، أن يعرض نفسه لكل هذه المهانة، وسوف يبحث لنفسه «أو تبحث لنفسها» عن علاقة أخرى أقرب إلى الإنصاف؟