عوائق سياحية على الرمال البيضاء
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 2 ديسمبر 2019 - 10:35 م
بتوقيت القاهرة
المسافة بين ضفة النيل الغربية بالجيزة، والواحات البحرية تبلغ نحو 365 كيلومترا، وهى المسافة ذاتها التى تباعد بين الصخب واختناق الشوارع بالسيارات، والهدوء الكامل فى قلب الصحراء الممتدة على طول الطريق إلى منديشة والعجوز والباويطى، أهم قرى ومدن المنطقة التى عرفت فى اللغة المصرية باسم «جسجس»، وباسم «واح البهنسا» فى المصادر العربية.
فى الجنوب الغربى من الجيزة، وعبر طريق القاهرة الواحات الصحراوى، يمكن للزائر الوصول إلى الواحات البحرية، وهى واحدة من تسع واحات فى صحراء مصر الغربية، وجميعها محطات مثمرة على صفحة الرمال الصفراء، تعطى من نخيلها وأشجارها التمر والزيتون والعنب، ومن جوفها تتفجر عيون الماء، والآبار، والمياه الكبريتية الدافئة التى تحمل الدواء والشفاء لكثير من الأمراض الروماتيزمية والجلدية التى تجذب الراغبين فى الاستشفاء من داخل مصر وخارجها.
صباح يوم خريفى وفى حافلة نقل عامة، لم يكن على متنها سوى عدد محدود من المسافرين، رحت أتأمل الرمال التى لا يغير لونها الأصفر سوى بقع الأسفلت الأسود حيث انهمك عمال فى أكثر من موضع بالعمل على ازدواج الطريق الذى لايزال فى بعض مسافاته يعمل فى المسارين على الدرب ذاته.
كانت الحافلة تتهادى على الطريق بينما غط غالبية المسافرين فى سبات عميق وقد خبر بعضهم الرحلة وآمن مسارها فقرر الاستفادة من ساعات السفر الطويلة (أربع ساعات إلى الواحات البحرية، ونحو ست ساعات إلى الفرافرة) بالنوم فى المقاعد الوثيرة، وربما كنت المسافر الوحيد الذى لم يغفل له جفن فواصلت تأمل المشهد المعاد والمكرر من تلال وهضاب متناثرة وسط الرمال الذهبية، متسائلا: كم تحتاج هذه الصحراء من جهد وعرق كى تخرج للمصريين كنوزها؟
فى الفندق الذى بنى على طراز فن عمارة الفقراء الذى ابتكره الرائد المعمارى الأشهر حسن فتحى، كان الصمت يخيم على المكان بعد تقلص عدد النزلاء، واختفاء الوجوه الأجنبية، إلا فيما ندر، منذ حادث مقتل عدد من السياح المكسيكيين بالخطأ فى سبتمبر 2015، عندما كانوا فى طريقهم إلى زيارة الواحات، ودخلوا فى منطقة محظورة كانت قوات الأمن تطارد فيها عددا من العناصر الإرهابية، وفقا لبيان وزارة الداخلية وقتها.
قال مدير الفندق الخبير السياحى محمد إدريس، إن المكان كان يعج بالسياح على اختلاف ألسنتهم، غير أن الأمر تغير، ورغم مرور أكثر من أربع سنوات على حادث السياح المكسيكيين لا تزال تداعياته تضرب فى القطاع السياحى الذى ضخت فيه مئات الملايين من الجنيهات، فيما يعيش القائمون على نشاطه، حاليا، على حد الكفاف حفاظا على منشآت سياحية أسست على أحدث الطرز.
صباح اليوم التالى وفى عربة الدفع الرباعى التى أقلتنى وعدد من هواة السفر والتجول فى الربوع المصرية، كانت الشكوى ذاتها على لسان السائق الذى دلف بنا إلى جوف الصحراء البيضاء بروعة منحوتاتها التى قدت من ريح وعواصف، بعد المرور على الصحراوين «السوداء والكريستالية» اللتين صنعتهما الأساطير وزينتهما الجيولوجيا بأحجار تخطف العقول قبل الأبصار، فقد تبدلت معيشة أدلاء الدروب وأبناء الواحات الذين يقتاتون على صناعة السياحة، من رغد إلى ضيق ذات اليد.
انخفاض عدد زوار الواحات انعكس على قدم موديلات السيارات المستخدمة فى رحلات السفارى التى يتم تنظيمها للمصريين وقلة من الأجانب المقيمين فى مصر، فيما يحظر على الشركات السياحية تنظيم أى رحلات للأجانب القادمين من وراء البحار، بدوافع ربما تكون مبررة، غير أن الاجتهاد فى ايجاد حلول للتغلب على المصاعب يمكن تدبيرها، وبما لا يخل بالدواعى الأمنية، هكذا يقول غالبية العاملين بالقطاع السياحى ممن التقيتهم فى المزارات المختلفة.
ألم يحن الوقت لتجاوز حادث المكسيكيين؟، وهل يمكن الوصول إلى نقطة توازن بين الحرص الأمنى واستغلال كنوز طبيعية لا تقدر بثمن، وبما يفتح الطريق أمام استعادة الحياة لرافد سياحى مهم يصب فى انعاش دخلنا القومى؟ هذا هو السؤال.