الديموقراطية على الطريقة المصرية

إبراهيم يسري
إبراهيم يسري

آخر تحديث: الأحد 3 فبراير 2013 - 9:39 ص بتوقيت القاهرة

فى مسيرة بناء الديمقراطية قدمت مصر بعد قيام الثورة نموذجا غير مسبوق للتطبيق الديمقراطى من إبداعات نخبنا ورموزنا فى السلطة وخارجها، أفرغ الديمقراطية من اهم مضامينها ومعطياتها التى خرجت بها التجربة السياسية الإنسانية فى العالم خلال قرنين من الزمان.

 

من أبرز سمات هذا التطبيق تعويقه وعدم اعتباره لآليات وأبعاد التفاعل الديمقراطى التى تعرفها الديمقراطيات. وقد بدأنا منذ الوهلة الاولى بتنحية اهم آليات الديمقراطية عندما تنازلت الأغلبية عن التكليف الذى حصلت عليه من الشعب بقبولها التعامل مع الأقلية بمنطق المشاركة لا المغالبة، وقد افرز لنا هذا التنازل مبدأ ديكتاتورية الأقلية الذى ركز على تعويق الحكم وإرباك السلطة وصرفها عن البدء فى تنفيذ مبادئ الثورة. وقد شهدنا الهجوم الضارى على المؤسسات الناشئة مثل مجلس الشعب والجمعية التأسيسية للدستور وكلها مؤسسات جاءت بالطريق الديمقراطى ووافق عليها الشعب. وبهذا تمكنت الأقلية فعلا من توجيه ضربات قوية للسلطة وقللت من هيبة الدولة واحترام رئيسها.

 

اخترعنا فى التطبيق الديمقراطى المصرى نظرية التوافق التى تمكن الأقلية من تكبيل ايدى الأغلبية ومنعها من تنفيذ سياستها وفقا للتفويض الشعبى، فالقوانين والسياسات وحتى الدستور لا تصح ولا تعتمد دون موافقة الأقلية، وهنا نطبق قاعدة التوافق consensus بطريقة فجة تخالف معنى التوافق فى القاموس السياسى والدبلوماسى حيث يعتبر وسيلة بديلة للتصويت واعتماد النصوص إذا كانت تحظى بأغلبية كاسحة ومعارضة ضعيفة بينما نطبق نحن التوافق بضرورة موافقة الأقلية.

 

•••

 

والأمر المثير للعجب هو تفسير وفهم كبار النخب والرموز لنتائج التصويت فهم يخضعونه لقواعد النسبية الرياضية فيسمع ان الرئيس لا يمثل كل المصريين لانه لم يفز إلا بواحد او اثنين فى المائة فقط، فى إنكار كامل لقاعدة ديمقراطية أساسية وهى ان الأغلبية تتحقق بنصف المصوتين +١ وبهذا تكتسب تفويض الشعب لها لتولى مناصب الدولة ومجالسها التشريعية، غير ان الأقلية حالت دون ذلك بإرهاب الأغلبية باتهامات ساذجة مثل التكويش وهى فى حقيقتها ممارسة الأغلبية لمهامها التى كلفها بها الشعب فلا يمكن مثلا ان ننتقد حزب العمال البريطانى لأنه جاء بوزارة كلها من أعضاء الحزب ويحدث ذلك فى فرنسا وأمريكا والهند.

 

المفهوم الغريب الآخر هو تصوير الانتخابات بعدم المصداقية لقلة نسبة المصوتين وان اى نتيجة لا تصح إلا إذا صوت ٥٠ مليونًا ممن لهم حق التصويت ويتناسون انتخابات الديمقراطيات الراسخة التى لا تحظى بأكثر من ٢٠٪ فى بعض الحالات دون ان توصم بالبطلان وعدم المصداقية وهو انتقاد استخدم أيضا للطعن فى شرعية الدستور.

 

•••

 

الأمر الثالث هو اعتقاد المنتمين لأى حزب معارض ان النسبة التى حصل عليها فى انتخابات برلمانية او رئاسية سابقة أصبحت ملكا وسندا له ناسين ان المصوتين يغيرون قناعاتهم من وقت لآخر وان التصويت فى الانتخابات البرلمانية يختلف كثيرا عنه فى الانتخابات الرئاسية، كما ان اى فصيل او تيار لا يستطيع ان يدعى انه بقدرته على تنظيم المليونيات والمظاهرات فى الميادين و الشوارع انه يملك اغلبية او مشروعية، فهذه الجماهير التى تتظاهر حاليا قامت وحدها قبل سنتين بالثورة دون اى قيادة من اى فصيل إلى ان تسلمتها النخب فلم تحسن إدارتها وانغلقت داخل دوائرها و حزازاتها وأحقادها الضيقة وراحت تبحث عن مكان لأشخاصها قبل ان تخرج بتصور او مشروعات إيجابية لتحقيق اهداف الشعب.

 

المبحث المهم الآخر هو التساؤل عما إذا كان الرئيس والرموز والنخب يخدمون الشعب ويمتثلون لإرادته أم يأمرونه ويشلون هذه الإرادة،  فالحوار المطلوب إدارته لتعديل الدستور الذى لم تمض أسابيع على موافقة الشعب عليه يعطى انطباعا واضحا بان السلطة والرموز والنخب تصدر عن عقيدة استعلائية فوقية، فهى تستفتى الشعب على دستور ثم تعود لتناقش تعديله فى نهج غريب على ديمومة النصوص والدساتير والحرص على الاحتفاظ له بالاحترام الواجب لأبى القوانين.

 

ثم ما هو مفهوم هذا الحوار، هو بالقطع ليس حوارا ولكنه نوع من التفاوض على اقتسام السلطة تحت ضغط الفوضى. وهنا تتأكد مرة أخرى ديكتاتورية الأقلية، فالكل يعرف ان جبهة المعارضة عليها اولا ان تبرهن على ان لديها قوة تصويتية كافية للحصول على الأغلبية فى البرلمان، وهى فى واقع الامر تسعى بجهود فوقية لاقتسام السلطة، وحقيقة ما يجرى الآن ليس حوارا ولكنه نوع من تفاوض بين قوى سياسية على اقتسام السلطة تحت ضغط تنظيم المظاهرات والاعتصامات بينما الطريق المتبع فى الديمقراطيات لتشكيل ائتلاف يأتى بعد الانتخابات وليس قبلها حتى يعرف كل حزب وزنه الحقيقى.

 

•••

 

ويكمل الصورة السلبية للمشهد السياسى عدم وصول أداء مؤسسة الرئاسة للمستوى المطلوب فى ادارة الدولة فهى تطرح على الرئيس قرارات ربما احتاجت إلى مزيد من التمحيص مما يضطر الرئيس للرجوع عن بعض قراراته بعد صدورها بأيام وحتى ساعات. وهناك انطباع بان البيروقراطية العريقة لمؤسسة الرئاسة توشك ان تعرض الرئيس الذى احبه الشعب واستبشر خيرا بانتخابه وعلق عليه الآمال، لخطر القولبة بما ليس فيه وجعله نسخة من الرؤساء السابقين، مما آثار من جديد مقولة أهل الثقة وأهل الخبرة، ويضاف إلى ذلك ضعف تشكيل الوزارة وعدم قدرتها على اكتساب مصداقية شعبية وقيامها بإصدار قرارات مثيرة فى توقيت سيئ.

 

•••

 

هذا الخلل فى المعارضة والفراغ فى السلطة افرخا تمردا فى كل مرافق الدولة ومهنها واهمها السلطة القضائية التى يجب ان تحظى بكل الاحترام، فالحديث عن استقلال القضاء مؤكد ومرغوب، اما اختلاق الأزمات والاستعلاء على الشعب وعدم احترام وتقدير صغار القضاة وأعضاء النيابة لكبارهم واستخدامهم لوسائل غريبة مرفوضة للتعبير عن آرائهم بتشجيع من بعض كبارهم ممن يسيسون مطالب القضاء انحيازا لفصيل سياسى دون آخر، مستندين فى نقدهم للرئيس فى تعيين النائب العام الجديد متناسين ان إزاحة النائب العام السابق كان من مطالب الثوار والقوى السياسية قبل وبعد قيام الثورة وان على الرئيس أن يمارس بشرعيته الثورية تعيين نائب عام جديد، الأمر الذى يعد من صلاحياته، ومع استنكار قيام بعض المشاغبين بحصار المحكمة الدستورية فان عدوان المحكمة على مجلس نيابى منتخب من ٣٠ مليون ناخب يمثلون إرادة شعبية تسمو على اى سلطة قضائية تصدر أحكامها باسم الشعب، الأمر الذى لم يحدث فى اى دولة ديمقراطية.

 

يواكب ذلك كله حملة قوية ظالمة منظمة سادت كل الفضائيات والصحف ضد سدة الرئاسة وشخص الرئيس تلصق بالنظام الجديد كل خطايا وسلبيات النظام البائد أسفرت عن تعبئة مشاعر الكراهية والرفض للنظام باستغلال كوارث متكررة نتيجة لفساد النظام البائد وذرف دموع التماسيح على ضحايا الحوادث بما لم نر مثله فى كارثة العبارة أكبر أحداث الإهمال والفساد والتى راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن.

 

ويضاف لكل ذلك حملة الكراهية الممنهجة ضد جماعة الاخوان المسلمين، التى واصلت نشاطها لما يزيد على ثمانين عاما فى كل العهود، واستمرار هذه الحملة حتى بعد قيام حزب الحرية والعدالة صاحب الأغلبية والذى انفصل عن الجماعة واصبح له كيانه المستقل مما يعرقل سبيل اى اتفاق او تفاهم.

 

الخلاصة ان البلاد تتعرض للخراب الذى سيطال الجميع وعلى القيادات السياسية ان تعى ان الضغوط التى تمارس على السلطة لن تصب فى صالح فريق دون فريق، كما انه يصعب فهم أهداف الحوار القائم الآن بدعوة رئيس الجمهورية او بمبادرات المعارضة، فكيف نكيف طلب تعديل الدستور وإملاء وزراء على الرئيس بينما الأصح هو استشراف آراء ورؤى شركاء السياسة لتدبر الأمر وقبول ما يتمشى مع الدستور والقانون على ضوء نتائج الانتخابات. والأمر الوحيد الذى لا يصح قبوله هو تعديل الدستور وتغيير الوزارة نتيجة لهذه الضغوط بما ينعكس على الدولة بالضعف وعدم الإيمان بالديمقراطية.

 

 

 

محام ومحكم دولى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved