عودة إلى «كنت طفلًا قبطيًا في المنيا»
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 3 فبراير 2022 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
في نهاية عام ٢٠٢٠ كتبتُ في هذا المكان عن رواية مينا عادل جيد "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا"، وها أنا ذا أعود لنفس الرواية بمناسبة الندوة الأدبية التي عُقدت في معرض القاهرة الدولي للكتاب يوم السبت الماضي. تولّى إدارة الندوة باقتدار الإعلامي ضياء الدين حامد، وكان من المفترض أن يشارك فيها الصديق الدكتور سعيد المصري الذي كتب لمينا مقدمة روايته، وقبل ذلك هو الذي حبّبه في منهج الأنثروبولوچيا الثقافية حين درسه مينا على يديه، فتعلّم منه أصول تطبيق هذا المنهج وعمل على تطبيقه، أقول كان من المفترض أن يشارك معنا إلا أنه لظرف صحّي طارئ غاب عن ندوتنا فخسرنا الكثير. لماذا أعود إلى رواية "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا" بعد أكثر من عام على الكتابة عنها؟ أعود لها لأني دعيتُ لمناقشتها في معرض الكتاب ووجدتُ في الندوة حولها جديدًا يقال، ثم إنه بشكل ما فإن ما بدأه مينا عادل جيد في روايته "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا"، قد استكمله في أحدث إصداراته "بيت المساكين" وهي الرواية الجديدة التي صدرَت له عن دار الكرمة قبيل معرض الكتاب مباشرة. الروايتان أشبه ما تكونان بجزئين لعمل أدبي واحد فالمسرح الأساسي للأحداث فيهما هو مولد العدرا في قرية جبل الطير بمحافظة المنيا، وذلك مع المزيد من التفاصيل المدهشة. نعرف مثلًا أن بيت المساكين الذي يقع في قرية جبل الطير، إنما هو بيت لأسرة قبطية كان أجدادها القدامى ممن استقبلوا العائلة المقدسة حين لاذت بمصر من اضطهاد الرومان وأحسنوا استقبالها ونذروا أنفسهم لخدمتها، ولذلك ينظر أهل قرية جبل الطير باحترام شديد لنسل هذه الأسرة ويعدّونهم من الأشراف الذين تشّرفوا باستقبال العدرا ويسوع المسيح ويوسف النجار. وهكذا نجد أن المسلمين والأقباط يشتركون في رسم هالة من الاحترام والتوقير لمن يسمونهم الأشراف مع اختلاف في المبررات، فمن جانب المسلمين فإن الأشراف هم الذين ينحدر أجداد أجداد أجدادهم من النسل النبوي الشريف، وفي كثير من البيوت المصرية توجد شجرة للعائلة توضّح موضع هذه العائلة تحديدًا مما يوصف بأنه "سلسال النبي"، وفي إعلانات الوفيات يظهر اعتزاز كبير بالقول إن المرحوم أو المرحومة بإذن الله هو الشريف فلان أو هي الشريفة فلانة. أما من جانب المسيحيين فإن لقب الأشراف يحصل عليه هؤلاء الذين تشرّفوا بالترحيب بالعائلة المقدسة حين حلّت بمصر وتنقلّت فيها من رفح للدلتا ومن الدلتا للصعيد. الطريف أن مينا يذكر لنا أن "بيت المساكين" هذا البيت الذي كانت تحب أسرته الإقامة به طوال فترة المولد، كان يُطلَق عليه من قبل "بيت العبايط" وذلك تهكمًا على بعض من سكنوه، قبل هؤلاء المساكين الورعين، ممن ضيّعوا فرصة عمرهم ولم يرحبوا بالعدرا ووليدها النبي عيسى عليه السلام ويوسف النجار.
• • •
لكن على الرغم من وحدة الموضوع بين روايتّي "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا" و"بيت المساكين"، إلا أنه ليس من الدقيق القول إنهما جزءان لعمل واحد، فالأول هو سيرة ذاتية يكشف فيها المؤلف/الطفل عن نفسه وهويته وعائلته، أما الثاني فإن المؤلف يستنطق طفلًا آخر ليروي ذكرياته عن المولد بكل بهجته ومراجيحه وحلاوته ومجاذيبه. وعندما تسأل المؤلف لماذا تجعل الطفل يتكلم في الحالتين، يرد بأن الطفل يتمتع بحرية أكبر في الحكي والفضفضة وهذه وجهة نظر تُحتَرم بالتأكيد، لكن يومًا ما سيكبر هذا الطفل وسيضطر المؤلف أن يخوض في مساحات وموضوعات تنتمي لمرحلة المراهقة والشباب، ولن يعود هذا الشاب يسأل جدته لماذا توزّع اللُعَب التي تعود بها من مولد العدرا على أطفال الجيران المسلمين "الذين لا يحبوننا" وهو أحق منهم باللُعَب، فهذه البراءة سوف تشذّبها اعتبارات المواءمة وتهذبها مقتضيات المجاملة مما لا يعترف به عقل طفل. ثم إن في رواية "بيت المساكين" إشارة إلى نوع من الصراعات الداخلية التي بدأت تعتمل في نفس الطفل صمويل/ الذي يلعب دور مينا في الحياة، وهو الصراع بين التدين والعلمانية والذي لم يظهر في "كنت طفلًا قبطيًا في المنيا". فيما بعد سيتقاذف هذا الصراع مينا بشحمه ولحمه كما قال لنا في ندوة معرض الكتاب، إذ أنه ذهب في البداية إلى التطرف في العلمانية لكن بالتدريج توازَن ووجد أن "اليمين حلو برضه"، وتوازَنَت أيضًا مكوّنات عديدة في شخصيته، فهو مينا نسبة إلى الملك مينا موحّد القطرين ومينا نسبةً إلى اللغة القبطية التي تفيد الشخص الأمين. وهو القبطي دينًا الذي ينهل من مناهل الحضارة الإسلامية والآيات القرآنية حتى إذا تعجّل أحدهم أمرًا رد عليه كرد جدته الله يرحمها "إن الله مع الصابرين". ثم إنه القبطي الذي لم يعان من التمييز لكن هذا لا ينفي أن له معارف وأصدقاء عانوا من التمييز. وبخصوص هذه الجزئية الأخيرة فعندما نفى شاب بين من حضروا ندوة معرض الكتاب وجود أي نوع من التمييز ضد الأقباط، كان الرد عليه أن كل تجربة لا تشبه الأخرى، فتجربة المتحدّث قد لا تكون تقاطَعَت مع بعض مظاهر هذا التمييز، لكن غيره ربما كانت له تجربة مختلفة. وعلى الهامش تدخّل رجل في نهاية السبعينيات موجهًا كلامه لمينا "إنت ما شفتش حاجة أنا شفت"، وما شافه هو انفتاح المجتمع المنياوي على البحري، حتى أن فتيات وسيدات المنيا كنّ ينتظرن عودة الأطباء الأجانب وزوجاتهم من إجازاتهم الصيفية للتعرّف على أحدث خطوط الموضة الأوروبية، وكان كورنيش المنيا يشهد ما يمكن وصفه بالديفيليه الكبير لأرقى موديلات الفساتين، وفي مثل هذا المناخ كان من الصعب جدًا أن نجد مظاهر للتمييز ضد الأقباط.
• • •
سألني مدير الندوة: بماذا تتميّز كتابة مينا عادل جيد؟ قلت له حتى الآن تتميّز كتاباته باستخدامها المدخل الأنثروبولوچي لتحليل الفترة المبكّرة من حياته، فمولد العدرا هو أهم الموالد القبطية. والموالد بشكل عام لها رمزية كبيرة في الثقافة الشعبية للمصريين: ففيها تبرّك وتبتّل وتسوّق وتصوّف وترويح وترويج، ولذلك فإنه على عظمة أعمال الشاعر العبقري صلاح چاهين، فسوف يظل أوبريت الليلة الكبيرة الذي كتبه قبل أكثر من ستين عامًا هو أعظم أعماله، فلقد تحولّت الغازية وشجيع السيما والبلياتشو والريس حنتيرة ومسعد والعمدة وكل شخصيات المولد إلى دمى قطنية ولوحات زيتية وأزياء وحلي وحِكم وأيقونات قاوَمَت التغيرات المجتمعية وتناقلَتها الأجيال المتتالية بكل سلاسة. إن فانتازيا الموالد ليس لها مثيل ففيها ألوان وزخم وتنوع وإبداع وفيها شيء من كل شيء. ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن الموالد قد تغيّرت مثلها في ذلك مثل أشياء كثيرة، وقد ذكر مينا عادل ذلك في الندوة عندما قال إنه في آخر زياراته لمولد العدرا بجبل الطير كانت الدنيا غير الدنيا، فلقد رأى إنشاءات هندسية وتحويلات للطرق من أجل إحياء المسار التاريخي للعائلة المقدسة وتمهيدًا للاحتفاء به، فاهتزت الصورة الذهنية للمولد كما انطبعت في ذهن أحد مواليد التسعينيات.
• • •
هذا المدخل الأنثروبولوچي إذن يميّز مينا عادل، لكنه مع أبناء جيله أمثال مينا فايق ومينا هاني ومينا ناجي وهيدرا جرجس وشادي لويس أو روبير الفارس الأكبر منهم قليلًا يشتركون في جرأة تناول القضايا الاجتماعية وطرح الأسئلة الصعبة، وفي التخلص من الحساسيات القديمة عند التعبير عن المشاعر، وفي رفض التابوهات الدينية بشكل ينطوي أحيانًا على بعض الحدة كما في أعمال مارك أمجد، ويحوّلون الشخصية القبطية إلى شخصية محورية في العمل الأدبي حتى لو لم يكن العمل ينتمي إلى أدب السير الذاتية. أما قبل ذلك فيمكن القول إنه في موجة أولى كانت الشخصية القبطية تظهر على هامش الأحداث كما في أعمال يحيي حقي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ولم تنكسر هذه القاعدة إلا مع أدباء على شاكلة إدوارد الخرّاط ممن نهلوا مباشرة من خبرتهم الشخصية وتفاصيلهم الأسرية في أعمالهم الأدبية. أما في الموجة الثانية التي انخرط فيها أمثال بهاء طاهر ونبيل نعوم وإبراهيم عبد المجيد ونعيم صبري وعادل أسعد الميري، فقد زاد عندهم الحضور الأدبي للأقباط، وتناوَلت رواية مثل البشموري لسلوى بكر الشخصية القبطية من منظور تاريخي مختلف تمامًا.
• • •
لم يكن الحضور في ندوة المعرض كبيرًا لكن مَن جاءوا كانوا مهتمين بالموضوع، ولعبت شخصية المؤلف البسيطة دورًا في كسر الحاجز الوهمي بين المتكلمين والمتلقين، وبعد أن انتقد الصور النمطية الجاهزة عن الأقباط سأله أحدهم: قل لي بقى معاك تليفون 012؟ رد مبتسمًا: أيوه!