الأمن والدولة والشرعية
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 4 مارس 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
الشغل الأول للمواطنين، بعد عام من التخلص من الرئيس السابق ومن الإطاحة بالقائمين على النظام السياسى حتى ذلك الوقت، هو انعدام الأمن. إن كانوا من حسنى الحظ ومن غير ضحاياها، فإن المواطنين يقرأون فى الصحافة وعلى شبكات التواصل الاجتماعى، ويتبادلون الأخبار، عن سرقات السيارات، وعن قطع الطرق، وعن عمليات الاختطاف وطلبات الفدية، وعن القتل المتعمد، وعن معارك عسكرية بين القرى المتجاورة، وعن حروب بين القبائل المستنفرة. المواطنون المعتادون على قدر كبير من الأمن منذ أن قامت الدولة الحديثة فى مصر مضطربون، يخشون على أرواحهم وممتلكاتهم، وهم على حق فى هذا الاضطراب.
يتساءل المواطنون عن الدولة، أين هى؟ لقد سقط النظام السياسى المصرى، ولكن الدولة المصرية لم تسقط، يقول المصريون لبعضهم البعض، فأين هى إذن؟ سقط النظام السياسى بمعناه الضيق، أى ذلك الجهاز الذى تمر عبره العملية الرسمية لاتخاذ القرار، من جانب، والذى يفرز السياسيين المشاركين فى نفس هذه العملية، من جانب آخر. أما الدولة، بجهازها الإدارى، وبشرطتها، وبقضائها، فضلا على قواتها المسلحة، فهى موجودة أمام العيان، فلم هذا التقاعس عن أداء وظائفها؟ الحقيقة هى أنه إذا كانت الدولة لم تسقط، فإن جانبا هاما منها قد انهارت شرعيته. إن لم تستعد الدولة شرعيتها، فهى ستظل عليلة لا تقوى حتى على فرض إحترام قواعد المرور فى الشوارع والطرقات، وهى قواعد زاد انتهاكها على انتهاك، انتهاك هو وضحاياه مظاهر متقدمة أخرى من مظاهر اضمحلال الأمن.
نزل وزير الداخلية إلى الشوارع ليشرف على عودة الأمن إليها، وتعالت الأصوات المطالبة بإعادة هيكلة الشرطة حتى تعود إلى ممارسة دورها. الأول جهد مشكور، والثانية أصوات محقة، مخلصة فى نواياها، غير أن إقامة الأمن ليست من وظائف الشرطة ووزارة الداخلية وحدهما. إقامة الأمن فى أى بلد من البلدان، ومصر ليست حالة فريدة بينها، هى نتاج لسياسات إقتصادية واجتماعية تفى باحتياجات المواطنين، وتؤمن لهم السكن، والتعليم، والصحة، والعمل، والترفيه، والمستوى المعيشى المناسب. انظر إلى بلدان شرقى آسيا وجنوب شرقها التى قطعت شوطا يعتد به على طريق التنمية، وإلى بلدان شمال أوروبا وحتى غربها، ستجد تحقيقا لإحتياجات الأغلبية الساحقة للمواطنين أو على الأقل تقدما ملموسا ومطردا فى تلبية هذه الاحتياجات، وستجد فى الوقت ذاته معدلات منخفضة للجريمة. تحقيق احتياجات المواطنين أو تلبيتها المتزايدة، هما اللذان يكفلان الشرعية للنظام السياسى، وهما الأساس المتين لإقامة الأمن.
أما الشرطة فوظيفتها هى الحفاظ على الأمن، أى التصدى لمحاولات الخروج على الأمن وإحباطها، وليس إقامة الأمن. تحدى الشرطة وعدم تمكينها من القيام بوظيفتها موجود فى كل المجتمعات، إلا أن حالات وجوده قليلة نسبيا، وهى من فعل الخارجين على القانون من عتاة الإجرام ومن صغاره. أما إذا زادت وتضاعفت حالات تحدى الشرطة، وإن أصبح الخروج على القانون معتادا يخشاه المواطنون وتعجز الشرطة عن إحباطه، فإننا نكون بصدد مشكلة سياسية تتعلق بشرعية النظام السياسى برمته، وبشرعية ما تقوم به الشرطة من إجراءات لحفظ الأمن. حتى الثامن والعشرين من يناير 2011، كان العنف الذى عاملت به الشرطة المواطنين، وخروجها المتزايد على القانون فى ممارساتها، من الأسباب الرئيسية لتقويض شرعيتها وشرعية النظام السياسى الذى أرادت خدمته، فأدت بذلك إلى إسقاطه من حيث أرادت الإبقاء عليه. شرعية النظام السياسى هى إقرار المواطنين بحق الدولة فى ممارسة العنف إزاءهم من أجل إلزامهم باحترام القانون. العنف هنا هو إيقافهم، واحتجازهم، وإنزال العقوبات بهم، وحرمانهم من حريتهم، بل ومجرد إرغامهم على تغيير مظاهر سلوكهم الخارج على القانون. ولكن هذا العنف لابد أن يكون مشروعا، والمشروعية تستمد من احترام الشرطة للقانون المنظم لممارساتها، ومن عدم عرقلتها لحياة المواطنين ومصالحهم. إن لم تحترم الشرطة هذا القانون، وإن عرقلت حياة المواطنين، فإن هؤلاء المواطنين لا يعترفون لها، ولا للدولة التى تخدمها، بحقهما فى ممارسة العنف تجاههم.
ليس مقبولا أن تلجأ الشرطة فى سبيل حفظ الأمن لممارسات هى بدائية متخلفة، فضلا على انتهاكها لحقوق الإنسان والمواطنين. القبض العشوائى على المواطنين، وإساءة معاملتهم، وتعذيبهم، وعرقلة مصالحهم، أساليب بدائية لايجب أن تلجأ إليها الشرطة حتى فى الأوقات الحالية التى إضطرب فيها الأمن، وذلك لسببين عمليين على الأقل. السبب الأول فهو إنها ستكون عقبة فى سبيل إعتراف المواطنين بحق الشرطة فى ممارسة العنف مع الخارجين على القانون، وهم بالتالى سيستمرون فى تحديها. أما السبب الثانى فهو أنها ممارسات منخفضة المردود وغير كفؤة، لأنها بدائية.
●●●
إعادة هيكلة الشرطة ليست كافية. إعادة الهيكلة ربما تعنى توزيعا جديدا لأدوار الشرطة ووظائفها على أقسامها المختلفة، وإحالة عدد من كبار الضباط إلى التقاعد أو نقلهم إلى هيئات أخرى، واستبدال قيادات جديدة بقيادات قديمة. المطلوب هو أولا التذكير بأن الشرطة هيئة مدنية، والتشديد على ذلك. والمطلوب ثانيا هو تقليم أدوار الشرطة وتخليصها من مهام ليس من المفهوم أو المجدى إضطلاعها بها، مثل إصدارها لجوازات السفر، ولبطاقات الرقم القومى، ولرخص المركبات والقيادة. أما المطلوب ثالثا فهو تغيير العقيدة العملية للشرطة، وربما كان ذلك المطلب الأهم. لابد أن تكف الشرطة عن القبض العشوائى، وعن إساءة المعاملة، وعن التعذيب، وعن عرقلة مصالح المواطنين. يجب أن تحترم الشرطة المواطنين وحقوقهم، وأن تتعلم الإلتزام بالقانون المنظم لعملها. ليس كافيا الإستماع إلى محاضرات تلقى فى كلية الشرطة أو فى الدورات التدريبية. لابد أن يقترن ذلك بالتطبيق العملى. فى سبيل ذلك، إن استدعى الأمر، فلا عيب فى اللجوء إلى الخبرة الخارجية والاستفادة مما يمكن أن يوفره التعاون الدولى من تجارب. لا معنى للتقوقع على الذات، بل ينبغى الثقة فيها وفى قدرتها على التفاعل مع الغير والاستفادة من تجاربه. الأمر يتعلق بتحديث الدولة المصرية من أجل مواطنيها، وهو تحديث لا تتردد الدولة فى سبيله فى أن تلجأ إلى الخبرة الخارجية حتى فى أشد القطاعات حساسية. لابد من تغيير صورة الشرطة لدى المواطنين. بعد التغيير فى الأدوار وفى العقيدة، ربما احتاج الأمر إلى تغيير فى الشكل الخارجى للشرطة من شعار، ومن ملابس لأفرادها، ومن ألوان لسياراتها، بل ومن إسمها نفسه.
على أنه يجدر التشديد من جديد على أن إقامة الأمن ليس وظيفة الشرطة وحدها. إقامة الأمن مرتبطة بشرعية النظام السياسى، وهذه الشرعية بدورها تستمد من وفاء النظام بالإحتياجات المعيشية للمواطنين، ومن احترامه لحقوقهم وحرياتهم.