عن متلازمة الوجع والإبداع
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 3 مارس 2016 - 9:50 ص
بتوقيت القاهرة
تكبر فينا الغربة فجأة فى كل مرة نسمع فيها عن تغييب الموت شخصا نحبه، تفتح داخلنا طريقا تمتد من الحنجرة إلى الأحشاء مرورا بالقلب فتعصره. تتسارع الأفكار والذكريات داخلنا وتتخبط، حتى نشعر أن بعضها قد يكون نتاج المخيلة وليس نتاج لحظات أمضيناها فعلا مع الشخص الذى رحل.
نرجع بذاكرتنا إلى أمسيات أمضيناها بصحبته وأحاديث قد نكون اختلفنا أثناءها، لكن ذلك لا يعنينا اليوم بقدر ما يعنينا أن نتذكر هل فعلا عبرنا له عن شعورنا تجاهه؟ هل رحل بسلام؟ هل قرأ آخر رسالة منا وماذا كان تعليقه؟ هل تذكر تلك الأمسية التى ضحكنا فيها معا حتى لم نعد نستطيع أن نكمل النقاش، ثم قال أحدنا «الله يجيب خير هذا الضحك»؟ كان ذلك قبل بدء الأزمة السورية بسنوات أو بشهور، لا يهم، فقد تحقق ما أنذر به المثل السورى ولم تأت عاقبة الضحك بالخير.
الموت شبح قرر أن يجاور السوريين وأن يكرمهم بحضوره بشكل خاص، يتربص بهم من السماء ومن الأرض ومن البحر، يخطفهم ويجرى بهم صغارا كانوا أم كبارا، دون أن يلتفت إلى لوعة ذويهم وهم يركضون وراءه ويصرخون: «يا ريت تاخدنى بداله». بات يفاجئنا موت أحدهم موتا طبيعيا، كما بتنا لا نسأل «كيف مات» حتى لا نسمع قصة إضافية عن القهر والحزن والمرض، ناهيك طبعا عن الموت من جراء الحرب والقصف وحتى البرد أو عدم إمكانية الوصول إلى المستشفى أو الاستغناء عنه لعدم إمكانية دفع فواتير العلاج. يرحل عن هذا العالم سوريون أعلام فى مجالاتهم كالفن والسينما والكتابة وغيرها، تاركين وراءهم فراغا نشعر به متضخما بسبب مصيبتنا، فنرى فى كل رحيل نذير شؤم، ونتساءل: «هل سيخطف الموت فى زيارته القادمة شخصا أقرب إلينا وماذا سنفعل فى هذه الحالة؟».
***
فى الغربة يتضخم كل شىء، وذلك ليس حكرا على التغريبة السورية. لكن ثمة شىء جد ثقيل يرافق فقداننا لأشخاص أثروا فى بلدنا كما عرفناها، فأعطوها ألوانا وجمالا نعيد اكتشافه حين يغيبون. عزاؤنا فى هذه الحالة هو تفتح زهور ربيعية ملونة تظهر من بين الأنقاض، ونغمات دافئة تصلنا مع صوت الرياح، ننظر ثانية ونتساءل من أين أتت هذه الروح؟ من أين وصلتنى هذه الأغنية؟ هل أخذ الموت فلانا وفى الوقت ذاته ظهر آخر على الساحة بجمال فنه وروحه فخفف عنا من مصابنا؟
يقال إن الفن يكون فى أحسنه وأعلى درجات إبداعه وقت الأزمات، فالشعور بالخطر والحزن والأمل والانتظار تؤجج عند الإنسان عواطف ربما لم يكن يعلم أنه يملكها، يخلق التخبط قدرة على التعبير والإبداع من الصعب الوصول إليها فى ظرف عادى. قد ننظر يوما ما إلى فترتنا هذه فنجدها من أهم مراحل بلدنا على الصعيد الثقافى والفنى، وقد تكون هدأت قليلا صفارات الموت من حولنا، فنصبح أكثر قدرة على استيعاب ما أنتجه الفنانون أو النحاتون أو المصورون أو الكتاب، فترانا نشرح لمن هم أصغر منا سنا أن تلك كانت أحلك مراحل تاريخنا المعاصر، مرحلة لم نكن نعلم إن كنا فعلا سنخرج منها سالمين، أم أشلاء أناس وأشلاء نفسيات، لكنها أيضا أنتجت بعضا من أقوى المواد الفكرية والفنية السورية على الإطلاق.
***
حين يذهب شخص نحبه، نتلفت حولنا خفية ونحاول ألا نفكر بمن من الممكن أن يتبعه، نفكر بمن لم نرهم منذ فترة ونتساءل عن أحوالهم، تصبح اللقاءات النادرة فرصة لوداع لا نعلنه لكننا نشعر به فى الجلسة دون أن نتحدث عنه. هل هذه آخر مرة أجلس فيها مع قريبتى حول فنجانى قهوة فتقرأ لى طالعى وتقول، فأصدقها أن ثمة فسحة بيضاء فى آخر طريق موحش؟ حين أختلف مع صديق حول مسألة ما فتحتد لهجته، هل أقرر أن أتوقف عن النقاش بغية أن نعود إلى مساحة تجمعنا أتذكرها فى المستقبل إن سمعت بخبر رحيله؟
أشعر أحيانا وكأننى فى حالة حداد استباقية على من أحبهم، هو حداد ينتظر أن ينفجر لو رحلوا، حالة حداد عليهم وهم أحياء كتحضير نفسى لرحيلهم. لكننا نعلم جميعا أن لا شىء يحضر أحدنا بشكل كاف لمواجهة تلك الحفرة السوداء التى تبتلع من نحب، فنقف على حافتها يمسكنا من بقى حتى لا نقع، وننظر فى الحفرة فلا نرى من ذهب.
متلازمة الألم والفن، الوجع والإبداع، الحنين والكتابة تخفف من مرارتها فرشاة ألوان رسام شاب، تعيد الحياة إلى يومنا الرمادى حين تظهر لوحاته أمامنا على الشاشة من مكانها فى معرض دولى، ومشاهد فيلم قصير أنتجته لاجئة سورية مبدعة فى لبنان كصرخة منها لتطلب منا أن نؤمن بها من على منبر مهرجان للأفلام فى عاصمة كبرى. نحن شعب لن يموت طالما أننا، ونحن نمشى فوق الرماد، ننتج صفحات ومشاهد ورسومات، ونعيد بذلك تدوير أنفسنا لنقوم من جديد، ننفض من على أنفسنا الغبار، ونعيد رتى حكاياتنا كما نرتى سجادنا الملون. ربما هذه هى الفسحة البيضاء فى آخر الطريق الموحش الذى رأته قريبتى فى فنجانى ذلك اليوم.