دون كيشوت اسمه مصطفى إبراهيم
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 مارس 2020 - 10:48 م
بتوقيت القاهرة
فى عز أحداث ثورة ٢٠١١ كتب الشاعر مصطفى إبراهيم أغنية (فلان الفلانى) وغناها باسم وديع ولحنها محمد عنتر وأخرجتها هالة القوصى وخرجت بنار الفرن مثل رغيف العيش الطازج الذى التف الجميع حوله.
كان شعر مصطفى إبراهيم بطعم تلك الأيام الحلوة ونارها أيضا ويحمل مثلها وعدا بالأحلام والقلق على الآمال التى رافقتها. ولد مصطفى إبراهيم بحضور الشاعر الكبير ومواصفاته، فى ذروة اللقاء التاريخى بين الذات الشاعرة والموضوع الكبير الذى يحتاج لمن يعبر عنه بصيغ تتجاوز المعنى المباشر.
وبفضل المناخ الذى خلقته دار ميريت وجد الشاب رعاية من شاعر ثورى مخضرم مثل أحمد فؤاد نجم واهتمام شاعر آخر هو عبدالرحمن الأبنودى تباهى على غير عادته بموهبة مصطفى وقال إن صاحبها «طاقة أمل» لشعر العامية. لم يكن كلام الأبنودى مجاملة أو «طبطبة» على كتف شاب موهوب وإنما تعبير عن شعور بأن ما لدى مصطفى من موهبة ربما يكون أكثر من غيره.
ومن يعرف فنيات شعر العامية وتاريخه يدرك ببساطة طبيعة ما أنجزه هذا الشاب (ولد عام 1986) عبر ديوانين، الأول هو «ويسترنيون شارع الهرم» والثانى هو «المانفيستو» إذ نجح فى خلق ما يمكن تسميته بقصيدة (الطريق الثالث) أخذ من إرث فؤاد حداد الولع بالإيقاع والحفاوة بوحدة البيت وبراعة التركيب اللغوى ومن صندوق صلاح جاهين حظى ببراعة تكوين الصورة وتلوينها بصبغة فلسفية زاهية حتى وإن بدت فى أقصى حالات الأنين.
وكتب قصيدة لا تهدر الطاقة الغنائية التى تحتاجها قصيدة العامية للتواصل مع الجمهور وفى نفس الوقت لم ينتج نصا سطحيا أو شعبويا مبتذلا ينشده فى الفضائيات والمهرجانات بأداء فني يمتلئ بالمبالغات الأدائية والتمثيلية التى تحوله من شاعر إلى مونولوجست تحوز (نمرته) على تصفيق الجماهير.
ورغم صعوبة الاختيار والانحياز للشعر حازت قصائد مصطفى إبراهيم جماهيرية كبيرة رغم أنها لم تكن بعيدة تماما عن تحولات قصيدة العامية واستثمرت بنجاح انعطافها إلى السرد الشعرى الذى طغى فى السنوات الأخيرة.
وتجلت فى شعره «نبرة تأملية» تميزه ومن يقرأ قصائد ديوانه (الزمن) الذى أصدرته دار الكرمة أخيرا يحمد الله أن هذا الشاعر لم يخلف وعده وأن قصيدته لا تزال قادرة على ملامسة الروح وإنارة العقل لأن فيها الكثير الذى يستحق أن نتوقف أمامه كما نتوقف أمام الشعراء الكبار.
يعطى عنوان الديوان إشارة واضحة إلى طابعه الفلسفى ورغبة الشاعر فى طرح تساؤلات كاشفة عن حالات اليأس والاغتراب وانعدام القدرة على الاندماج وانفلات الزمن وتسربه، حتى إن القارئ لا يتمكن من الإفلات من الشجن الذى يشيع فى كل صفحات الكتاب الذى تطغى عليه نبرة المناجاة.
وتبدو القصائد فى معظمها مثل (حوارية) كاشفة عن ذات تواجه الانشطار والتشظى وحيرة الاختيار لكن صاحبها يتمسك بحقه أو حقها فى الحلم واختبار الاختيار بين التناقضات فالذات الشاعرة تختار بين دائما بين نقيضين (المعافرة والتسليم) وتحتفل بالرجل (الواقف لسه على رجليه) وتنتظر لحظة (الاعتزال).
ويقول البعض إن المعتاد أن تطغى هذه الحالات على إنتاج أغلب الشعراء ذوى النزعة الرومانسية إلا أن مصطفى يأخذ قارئه إلى مساحة أخرى ويبدو كمن ينزع قشرة جرح وهو يعبر عن حيرة الباحث عن طريق أو الساعى لاستعادة (وشوش ضحايا اللأ) أو جمع ما يسميه بـ(الهباء المنثور)
تتابع قصائده على تنوع معانيها نحو سعيها لتأكيد حاجة (القرين) لمواجهة قرينه و(تنظر بأسى إلى) مسألة انفراط العقد وتلاشى الجموع: (زعلان ما تزعلشى بقينا ألف فريق/ وإن زدنا واحد نبقى زدنا غريق)
وتنشغل القصائد كذلك برصد زوال المعانى الكبيرة وتؤطر لفقدها، وهى تبحث عن (الشعرة اللى بين الحق والباطل).
وربما كانت تغريدة البجعة الأخيرة أو الخطبة الأخيرة لدون كيشوت بعد أن تدرك ذاته الحالمة معنى الخذلان حين تتحول (الأحلام لنكتة بتعيط ما بتضحكش).
ورغم كل ذلك لا يمكن وصف مصطفى إبراهيم بشاعر المراثى، لأن ما يرغب فيه ليس تشييع الأمل وإنما تثبيته، فما يكتبه هو تذكير بـ(فداحة النسيان) ومخاطره.
فهو يقول بوضوح: (هل ترى الهزيمة ولا صوت العقل / اللى بيوشوش فى ودنى بالراحة بدون أنفاس / مش شرط يعنى نغير الدنيا / كفاية حتة صغيرة فينا أو حتة صغيرة فى الناس).