يوم ضجرت النكتة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 3 مارس 2021 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
فى بلدنا وزارة للنكات، فعلا هناك وزارة تعمل على ترويج قصص أو بدايات قصص يمكن استعمالها من قبل الشعب للضحك والدعابة. هناك قسم يدرس المناخ العام فى البلد ويحلل مستوى الرضا والقلق والغضب ويعطى مؤشرات على قابلية الغضب والاحتجاج. هناك قسم يعتمد على هذه الدراسات ليقترح مضمون أو مادة أولية تخضع طبعا لقبول الوزير قبل أن تذهب إلى قسم الإبداع فى الوزارة، حيث يعمل الفريق هناك على تحويل المادة إلى محتوى عالى الجودة من قصص ونكات وتعابير هزلية يسلمها إلى قسم الترويج الذى ينطلق فى فضاء المدن بدءا بالمناطق البعيدة عن مركز العاصمة، حيث يتم تقييم وقع القصة أو النكتة وقد يتم تغيير بعض التفاصيل قبل استمرار نشرها فى البلد حتى تصل إلى العاصمة، حيث مركز الحكم.
***
هناك استنفار عام فى صفوف العاملين فى الوزارة فى هذه الفترة، بعد أن وصلتهم تعاليم صارمة لا تتماشى مع اسم الوزارة أصلا بالعمل ليلا نهارا من أجل تغيير المناخ. وهنا المناخ يعنى المزاج العام، أو بشكل أوضح، تعديل المزاج العام بحيث يطغى الرضا على أى شعور آخر. ينهمك رؤساء الأقسام بتشكيل خلية أزمة مكونة منهم، طبعا فهم رؤساء الأقسام. يوزعون العمل فيما بينهم ويوزعون التعليمات كل ضمن قسمه، متعمدين أن يبثوا شعورا بقربهم من الخطر. هم يعرفون أن شعور الخطر يولد الإبداع، فمن ذا الذى سوف يسمح بالخطر بأن يمسه؟ ألن يلجأ الموظفون إلى أبعد ما فى أذهانهم من أساليب لحماية أنفسهم؟
***
تتحول الوزارة إلى خلية نحل حتى يكاد من فيها أن يسمع ززززززززززززززز وهو صوت النحل فى أعلى إنتاجيته. يخيم حرف الزاء المتكرر إذا على الوزارة فيخشى الوزير أن يفضح الصوت مكانها. هى وزارة مخفية عن العيون، لا يراها الشعب، وهذا أهم بند أصرت عليه القيادات العليا عند إنشاء الوزارة: يجب ألا يعرف بوجودها أحد! فنحن بلاد معروفة بخفة دم شعوبنا وقدرتهم المهولة على تحويل أى مأساة إلى نكتة. نحن شعوب روحها خفيفة بالفطرة، وإلا فكيف كنا سنواجه ثقل الحياة من حولنا والشعور أن ثمة من يتقصد دفعنا إلى سفح الجبل فى كل مرة نقترب فيها من القمة؟
***
تنشغل الوزارة من الداخل بالبحث عن أجوبة، وينشغل حراسها من الخارج بإخفائها عن العيون. مستوى التوتر عال، ومستوى الإنتاج منخفض. ابحث عن الخطأ، فالمفروض أن ينتج من يشعر بالتوتر أفكارا جديدة، أو ليس القلق من أفضل مكونات الإبداع؟ هل كتب أحدهم أى نص فاز بجوائز وهو، أى الكاتب، يعيش بترف؟ هل تمكن أى موسيقى من إنتاج سيمفونية عالمية بعد أن تخيلها فى بلد مترف جلس فيه فى غرفة معيشة أمام مزهرية؟
***
يحتار رؤساء الأقسام فيما بينهم، لا أفكار جديدة ولا قصص مضحكة ولا مواقف كوميدية فى جعبتهم رغم ضغطهم على الموظفين. ها هم يقفون جيوبهم خالية من الضحك. لم يبق فى المدينة أى مزاح. يحاول الموظفون مرات ومرات، خلية الأزمة مستنفرة، التعليمات تزداد صرامة وتكلفة من يتخلف عن الإبداع أصبحت باهظة. كل هذا وما زالت الجعبة خالية. يتغير موظفو الأقسام بقرارات سريعة من الرؤساء، هم بحاجة إلى دم جديد وعقول جديدة غير تلك التى تنتج النكات منذ سنوات. تأتى فرق جديدة شبابية إلى المكان بمصطلحات لا يستسيغها رؤساء الأقسام رغم تأكيد الشباب أنها من وحى الشارع والأجيال الجديدة. لكن يصعب على رؤساء الأقسام تقبل هذه المصطلحات والأفكار حيث إنها تتنافى بشدة مع المفاهيم العامة التى لطالما تقبلها الشعب، خصوصا الطبقات الوسطى منه والتى يجب الحفاظ على أخلاقياتها وثقافتها.
***
حسنا، لنخرج الشباب الطائش من الصفوف ونعيد موظفينا الرصينين ونحاول من جديد. أين النكتة يا جماعة؟ من غير المعقول ألا نعرض شيئا على معالى الوزير! موعد الاجتماع غدا، ما هو اقتراح خلية الأزمة؟
***
يتصدر وزير النكات المشهد فيجلس على رأس طاولة اجتماعات ضخمة ينظر إلى الشاشة أمامه. هو ينتظر أن يعرض عليه المدير العام فكرة الموسم ليوافق عليها ويتم تعميمها على الشعب دون أن يعرف الشعب أنها نكتة مسبقة الصنع والتعليب فى الوزارة. يتوقف الجميع عن الكلام استعدادا لما سيظهر على الشاشة. تظهر الفكرة، يقرأها الوزير ويحبس من فى الغرفة أنفاسهم. تمر الثوانى ببطء حتى يبدو وكأن الهواء نفسه قد هرب من القاعة. ثم يضحك الوزير وتعلو قهقهته حتى يهيئ لمن حوله أنه سيقع من على الكرسى.
***
«مرة كان فى شعوب خفيفة الظل وحاضرة البديهة وسريعة النكتة، من كثرة الهموم النكتة هربت منهم وقالت التوبة من دى النوبة أرجع لكم من تانى».