المصريون وحبهم المهزوم لمصر
سامر سليمان
آخر تحديث:
الجمعة 3 أبريل 2009 - 5:47 م
بتوقيت القاهرة
مصر مش أمى، دى مرات أبويا. هذا عنوان كتاب الاستاذ أسامة غريب، الذى يحقق نجاحا توزيعيا كبيرا هذه الأيام. العنوان بالطبع جذاب، لأنه متمرد. والتمرد هو إحدى الفضائل، التى دخلت مؤخرا فى القاموس الأخلاقى للمصريين.
والحقيقة أنه لا تقدم إلا بالهدم والبناء. ولا بناء بدون هدم سابق عليه أو مصاحب له.
صحيح أن بعض أشكال التمرد الحالية تتصف بالشطط. لكنها مسألة وقت، ولن يمضى وقتا طويلا حتى يصحح المجتمع مساره بالتجربة والخطأ. المُراد فى الكتاب هو هجاء مصر عن طريق استدعاء صورة زوجة الأب كما عرضتها السينما المصرية.. قاسية، متوحشة، سادية.
وهى نفس صورة زوج الأم. هذا بالرغم أننا نعاين بأنفسنا فى الواقع زوجات أب وأزواج أم فياضين بالحنان العطاء على غير أبنائهم. والحقيقة أن علاقات الدم فى مصر على أهميتها لا تلعب الدور المحورى، الذى تلعبه هذه العلاقات فى المجتمعات القبلية. فمصر فى النهاية هى حضارة فلاحين. والفلاح انتماؤه الأساسى ليس لقبيلة، ولكن للأرض التى يفلحها فتعطى له الخير.
حسنا فعل الكاتب العظيم أسامة أنور عكاشة فى مسلسل ليالى الحلمية، حينما أعطى دورا محوريا لزوجة أب حنونة وطيبة (وصيفة) قامت بتجسيده الفنانة الجميلة أنعام سالوسة. ولكن يبدو أن صورة زوجة الأب المجرمة ما زالت هى الصورة السائدة فى ذهن مؤلف الكتاب. فليكن. على أن زوجة الأب فى كتاب الأستاذ غريب ليست فقط قاسية، وإنما هى أيضا راقصة! فغلاف الكتاب تتصدره صورة لراقصة بلدى مطبوع على فستانها ختم النسر. يعنى باختصار مصر ليست أمنا، وإنما زوجة أبينا الراقصة.
وما أدراك من هى الراقصة فى مصر؟ هى عدو الشعب رقم 1، بالرغم أن معظم الشعب يدعوها لإحياء أفراحه. ولكن ماذا تقول عن مرض الفصام والازدواجية؟
كاتب هذه السطور من باحثى العلوم الاجتماعية الذين يعتقدون فى أن الرموز لابد وأن تؤخذ بجدية، خاصة فى مصر. كل هذه الصور والملصقات واللحى والصلبان والعلامات ليست من فراغ. الرموز فى مصر لها حضور طاغى فى المجال العام. ولن يكون هناك تغيير حقيقى إلا بثورة ثقافية لا تمس فقط المعتقدات والأفكار وإنما أيضا الرموز والصور والتشبيهات.
المرحلة التى نعيشها الآن هى فترة نهاية رموز لم تصمد أمام واقع الحياة. تشبيه مصر بالأم يسقط. والحقيقة أن التشبيه لم يكن بليغا بادئ ذى بدء. فالأم ترمز فى الثقافة الشعبية للعطاء غير المحدود. مصر الأم هى مصر المعطائة بلا مقابل. وهنا المشكلة.
فمنذ آلاف السنين انسحبت الغابات من مصر وتمددت فيها الصحراء، وبالتالى لم يعد من الممكن الحديث عن مصر الأم. فأرض مصر إما صحراوية قاحلة لا تنبت ولا تعطى ماء إلا بالعرق والجهد، أو أرض شديدة الخصوبة، لكنها لا تخضَر إلا بالعرق. أرض مصر ليست معطاءة مجانا، كما هو الحال بالنسبة لأراضى شعوب أخرى فيها موارد طبيعية وفيرة.. فيها غذاء نباتى مجانى تطرحه أشجار الغابات، أو فيها حيوانات تهيم على وجهها انتظارا لصياد ماهر. الأرض الخضراء فى مصر اخضرت بالعمل، والحيوان الذى نأكله تعبنا فى إطعامه ورعايته.
حتى الماء نفسه لا ينزل من السماء، ولكن يحمله نهر يحتاج إلى جهد جماعى شاق لترويضه. يعنى مصر فى الأصل ليست بلدا ريعيا يعيش على «منح» الطبيعة. مصر ليست هبه النيل وانما هبة سكان النيل. مثل هذا البلد الذى لا يعطى شيئا إلا إذا أعطيته الكثير، أكثر مما يعطى أى شعب لبلده، لا يمكن أن نرمز له أبدا بالأم. لأن الأم تعطى بلا حدود قبل أن تأخذ أى شىء.
لكننا إذا نحينا رمز الأم جانبا وتأملنا الرمز الجديد الذى يطرحه الأستاذ غريب لزوجة الأب، والذى يبدو أنه حاز بعض القبول لطرافته وإذا قبلنا أن مصر هى زوجة أبينا. فالسؤال المهم هنا هو.. من هو أبونا الذى ابتلانا بهذه الزوجة القاسية اللعوب؟ الأب هنا هو الجانى الحقيقى، لأنه أتى بهذه الزوجة. هل الأب هنا هو نظام الحكم؟ بالطبع لا، لأن نظام الحكم ليس أبونا بل هو ابن لهذا المجتمع، أى هو نتاج لعلاقات القوة فيه.
فإذا كان ولابد أن تظل مصر ستا فلتكن ابنة. فالابنة تأخذ الكثير قبل أن تصل إلى مرحلة العطاء، والابنة تطرح بقدر ما يعطيها الآباء من رعاية. إذن مصر ليست أمى ولكنها بنتى، وهى ستعطينا بقدر ما نعطيها أولا. لكن هذا التشبيه لا يحل المعضلة.
فالسؤال الأهم هنا هو لماذا يجب أن تكون مصر دائما «واحدة ست»؟ الإجابة بسيطة. لكى تحتاج إلى رجل ليحميها، سواء كان زعيما أو نظام حكم أو حركة سياسية. تشبيه مصر بالسيدة يعكس بلا شك حالة ذكورية مستعصية لدى النخبة المصرية، وهى حالة ذات سوابق لدى شعوب أخرى. فلنستمع إلى ما يقوله أدولف هتلر الديكتاتور النازى الشهير. هو يقول إن الشعب شأنه شأن المرأة، لا يمتلك الكثير من الملكات العقلية.
ومن هنا قيادته تتطلب من الزعيم أن يعامله معاملة الرجل للمرأة. لابد للزعيم أن يخضع الشعب بمزيج من العواطف الجياشة والعنف غير المحدود. كلنا نعلم ماذا جرى لألمانيا بسبب الفلسفة الكامنة وراء ذلك التشبيه. لا مشكلة فى تشبيه مصر بواحدة ست إذا كان النمط الثقافى السائد يضع الست على قدم المساواة مع الرجل.
المشكلة تظهر عندما تصبح مصر سيدة فى ذهنية تيارات ذكورية لا تحل مشكلتها مع المرأة حتى الآن. لأن مصر عندما تصبح إمرأة هنا فهى تحمل كل الصفات السلبية التى يلصقها المجتمع بالمرأة. وهنا يكون تشبيه مصر بواحدة ست هو دليل على مشروع استبدادى ينتظر ظهور الرجل الفحل الخارق، خاصة عندما تكون مصر هى امرأة «فلتانة»، كما هو حال صورة مصر على غلاف كتاب الأستاذ غريب. لأن المرأة «الفلتانة» لا تحتاج إلا لرجل حازم لكى يخضعها. وهذا هو جوهر الاستبداد السياسى.
بالتأكيد مصر تعانى من أزمة فى الرموز. والدليل على ذلك أن الأغنية الوطنية انقرضت أو كادت. فكتاب الأغنية عاجزون عن التغنى لمصر. وبينما يتوقف المديح للبلد، يزداد الهجاء لها. وهو بالشىء القاسى جدا على الذات، لأن من يهجو مصر هو يهجو نفسه. فمصر ليست إلا أرضا وشعب وحكومة.
فإذا كانت سيئة وقبيحة فلن يتحمل مسئولية ذلك إلا الحكومة والشعب. والمصريون كلهم إما فى الشعب أو فى الحكومة. لكن انتشار هجاء مصر برغم قسوته يعطى الأمل، لأنه تعبير عن كراهية، والكراهية هنا ما هى إلا حب محبط ومهزوم. ما زال هناك حب جارف لمصر فى نفوس المصريين الذين يهجونها. المعضلة كلها هى تحويل هذا الحب المهزوم إلى حب ناجح.