الاقتصاد المصرى من حرية السوق إلى حريات التنمية

وائل جمال
وائل جمال

آخر تحديث: الأحد 3 أبريل 2011 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

 سقطت مادة الاقتصاد الحر فى الدستور. وسط الشد والجذب حول الإعلان المؤقت، لم يتنبه الكثيرون إلى تعديل المادة الرابعة فى الدستور السابق، التى يقول نصها إنه «يقوم الاقتصاد الوطنى على حرية النشاط الاقتصادى والعدالة الاجتماعية وكفالة الأشكال المختلفة للملكية والحفاظ على حقوق العمال». بدَّل الإعلان الدستورى كلمة واحدة فى المادة، التى صار رقمها الخامسة، ليقوم «الاقتصاد على تنمية النشاط الاقتصادى» وليس «حرية» النشاط الاقتصادى.

كانت حكومة نظيف وتيار الفكر الجديد فى الحزب الوطنى، الذى تربع على السياسة الاقتصادية فى مصر معظم سنوات العقد الماضى، قد وضع هذا الالتزام القانونى بنظام السوق الحرة فى تعديلات 2007 محل نص عام 1971، الذى تحدث عن «النظام الاشتراكى الديمقراطى القائم على الكفاية والعدل، بما يحول دون الاستغلال»، كأساس للاقتصاد. كان ذلك التعديل الدستورى وقتها إقرارا لواقع تحول فيه القطاع الخاص ليصبح القطاع المهيمن على الاقتصاد القومى. لكنه كان أيضا تتويجا قانونيا لتحول عنيف، فرضته هذه المجموعة بأعمق تحرير للاقتصاد فى اتجاه آليات السوق، استمتعت بأغلب ثماره قلة قليلة من رجال الأعمال المحاسيب.

وهاهى الثورة تفرض تغيير هذا الالتزام القانونى، فارضة بوصلة جديدة للاقتصاد، ولو بشكل مؤقت لحين مناقشة وإقرار الدستور الجديد. التنمية صارت هى أساس النشاط الاقتصادى للمصريين، وفى ذلك فلتتنافس الرؤى والبرامج القائمة على أنظمة اقتصادية مختلفة.

نعم الأفكار تهم بقدر ما تعبر عن نجاح على الأرض واستجابة لمصالح الأغلبية. فتلك التصورات التى قادت لتحرير الأسواق وسياسات أخرى فى القطاعين الخاص والعام، صارت عارية أمام الجميع بعد أن «أدت إلى الأزمة العالمية فى 2008 وانتشارها السريع»، بحسب تقرير ستيجليتز الصادر عن الأمم المتحدة العام الماضى، بمشاركة لجنة من الخبراء الاقتصاديين ترأسها الاقتصادى الأمريكى الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد، جوزيف ستيجليتز.

ويضيف التقرير أن مجموعة أخرى من الأفكار هى التى قادت السياسات القوية لمواجهة الأزمة. «تقريبا لم يقل بلد واحد: دعوا الأسواق تعتنى بنفسها. وحتى الأصوليون من أنصار السوق الحرة جاءوا جريا إلى الحكومة طلبا للمساعدة»، بكلمات لجنة اقتصاديى الأمم المتحدة.

ولا يعنى الانقلاب على السوق الحرة فى السياسة الاقتصادية عالميا بعد الأزمة، التى هزت مواقع أنصارها فى أغلب بقاع الأرض، انقلابا على الحرية، التى حذف الإعلان الدستورى ارتباطها بالنشاط الاقتصادى. بل إنه ربما يتطلب، وربما يفرض، توسيعا للحريات.

يقول اقتصادى آخر حاصل على جائزة نوبل، هو الهندى أمارتيا سن إن التنمية، التى صارت الالتزام الأول دستوريا لنظامنا الاقتصادى ما بعد الثورة، «تستلزم إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات: الفقر والطغيان وشح الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعى المنظم، وإهمال المرافق والتسهيلات العامة وكذا عدم التسامح أو الغلو فى حالات القمع». ويلاحظ سن فى كتابه «التنمية حرية» أنه على الرغم من الزيادات غير المسبوقة فى إجمالى الثروات، إلا أن العالم المعاصر، الذى طبقت معظم دوله وصفة اقتصادية متطابقة خلال العقدين الماضيين، ينكر أبسط الحريات على أعداد مهولة من البشر ــ «بل أكاد أقول على الغالبية من البشر».

إن نقص الحريات مرتبط ارتباطا موضوعيا مباشرا بالفقر الاقتصادى الذى يسلب الناس حقهم فى الحرية لإشباع ما يعانونه من جوع، أو حقهم فى الحصول على العلاج، أو ماء الشرب أو الصرف الصحى..الخ. الحرية، حرية المشاركة الحرة فى الحياة الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية قبل كل شيء، هى هدف التنمية الرئيسى.

إن هذا التحول فى النص القانونى الرئيس انعكاس لدوافع وشعارات الملايين، الذين خرجوا فى 25 يناير من أجل الكرامة والحرية ومن أجل العدالة الاجتماعية، انتفاضا وتمردا على سياسات، أعطت الأولوية المطلقة للربح الرأسمالى فى الاقتصاد على ما عداه مكتفية بوعود غامضة عن ثمار تتساقط تلقائيا للمجتمع، بحثت عنها الأغلبية المنتجة دون جدوى.لكن هل يكفى تغيير القانون لتحقيق ما يحلم به المصريون من كريم العيش؟

إذا كانت مراجعة الالتزام الدستورى بديانة حرية السوق قد اقتضى ثورة، فقط لفتح الباب الديمقراطى أمام تصورات أخرى، كتلك التى باتت تحكم العالم النامى من البرازيل إلى ماليزيا، فإن إتمام ذلك على الأرض لن يمر بسهولة.

لقد خلقت سنوات حكم أنصار السوق الحرة بلا قيد أو شرط، التى قاربت السبع، نموا غير مسبوق لدور أصحاب رأس المال فى المجتمع وفى السياسة. دور لم يعد يستند فقط على صلة قرابة أو علاقة فساد عابرة أو منظمة، لكن على أساس مادى فى تطور الرأسمالية المصرية، ووضعية مؤسسية تتجاوز الأفراد والحكام إلى قوة جديدة اقتصادية سياسية هى الشركات الكبرى الممتدة داخل وخارج الحدود. تحولت هذه إلى القوة المنتجة الأولى فى البلاد وفى اقتصادها، مع إطلاق العنان لأرباحها ونموها على حساب أى شىء آخر. ومدت هذه القوة أذرعها، القادرة على البطش فى ساحة العمل والعيش، إلى السياسة وإلى الإعلام والصحة وغيرها. ولا يمكن تصور ألا يظهر هؤلاء أنيابهم دفاعا عن «حريتهم»، التى التهمت كل الحريات.

لم تمس الثورة حتى الآن هذا التوازن المقلوب بين حرية القلة وحريات الأغلبية. ولم تقترب حتى من الفساد المكشوف فى هذه القوة المستفيدة بامتياز من النظام القديم، ناهيك عن تحجيم النفوذ غير المتوازن لها فى السياسة. وهكذا فهى مرشحة لكى تطل برأسها مرة أخرى، لتعيد تقديم نفسها فى النظام الجديد بأحزابه ومؤسساته، بل وربما حكوماته.

التنمية ليست فقط قضية تتعلق بالنظام الاقتصادى الجديد الذى ينبغى أن تتبناه بلادنا. التنمية قضية توازن اجتماعى وديمقراطية، وفيها لا تنفصل السياسة عن الاقتصاد. وبالإضافة إلى الخيال والإبداع فى صياغة نموذج اقتصادى يحقق النهضة والرخاء للعمال والفلاحين والموظفين وهم الأغلبية، التنمية قبل كل شيء معركة مصالح. فهى خيار لن يمر بسهولة، ويحتاج لكل أنصاره من الأغلبية المنتجة التى صنعت الثورة، صاحبة المصلحة الوحيدة فى خوض غمار معركة سياسية نارية، وربما ثورة أخرى، لضمان انتقال مصر من سطوة حرية السوق إلى رحاب حريات الشعب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved