تراجيديا الهجرة إلى أوروبا
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 3 أبريل 2011 - 9:42 ص
بتوقيت القاهرة
تتدفق ثلاثة أنهار من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. النهر الأول مصدره المغرب ويصب فى إسبانيا وجبل طارق. ومعظم المهاجرين إما مغاربة أو من دول غرب أفريقيا مثل موريتانيا والسنغال وحتى نيجيريا. أما النهر الثانى فمصدره تونس، ويصب فى إيطاليا، وتحديدا فى جزيرة لامبادوسا، وهى جزيرة صغيرة تقع فى المتوسط بين تونس وايطاليا.
وأما النهر الثالث فمصدره تركيا. ويصب فى اليونان. ومعظم المهاجرين يأتون من الباكستان وأفغانستان والصومال وأريتريا والعراق وإيران وفلسطين، وجميعها مع الأسف الشديد دول إسلامية، ولعل هذا النهر هو الأكبر. ذلك ان عدد المهاجرين فى العام الماضى 2010 بلغ 47 ألف مهاجر.
ويمكن تفسير ذلك بأمرين. الأول هو ان تركيا تعفى رعايا هذه الدول من تأشيرة الدخول اليها. ولذلك فهم يتوافدون بسهولة إلى تركيا للقفز منها إلى اليونان المجاورة. وبما أن اليونان عضو فى الاتحاد الأوروبى فإن الدخول اليها يعنى دخول أوروبا، جنة المهاجرين غير الشرعيين الذين يبحثون عن موطن وعمل.
أما الأمر الثانى فهو أن تركيا ملزمة بموجب معاهدة دولية وقّعت عليها فى عام 1951 ألا تقبل المهاجرين الذين يطلبون اللجوء اليها، إلا إذا كانوا حكما من رعايا الدول الأوروبية. وبما أن المهاجرين القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط وحتى آسيا، لا يمتون إلى الرعاية الأوروبية بصلة، فإن دخولهم إلى تركيا (دون تأشيرة) مسموح.. وإبعادهم عنها مسموح أيضا بل ومفروض! ولذلك فإن اليونان التى يصب فيها هذا السيل العرم من المهاجرين غير الشرعيين عبر تركيا لا تستطيع أن تلوم جارتها اللدود أو أن تدينها أو حتى أن تشكو من سلوكها. كل ما فعلته اليونان هو تشديد المراقبة البحرية على جزرها المتاخمة لتركيا حيث يصب نهر الهجرة المتدفق.
غير أن لهذه المراقبة حدودا لا تستطيع اليونان بحكم التزامها بمعاهدة دبلن (أيرلندا) الثانية تجاوزها. وتقضى هذه المعاهدة بأن دولة الدخول، أى الدولة التى يدخل المهاجرون منها إلى أوروبا هى المسئولة عن الهجرة. وهذا يعنى أن اليونان لا تستطيع أن تلقى عبء المهاجرين على المجموعة الأوروبية. وأن كل ما تستطيع أن تطالب به هو المساعدة على توفير وسائل المراقبة لسد جريان نهر المهاجرين إليها. وهو ما تستجيب له المجموعة الأوروبية بسخاء. غير أن ذلك لم يوقف التدفق. مما حمل المجموعة الأوروبية إلى طرح فكرة تجميد عضوية اليونان فى اتفاقية اليورو، وفى اتفاقية شانغين (التأشيرة المشتركة)، وذلك لسحب الإغراءات التى تجذب المهاجرين غير الشرعيين إليها. ولو اعتمدت هذه الإجراءات السلبية لبادرت الدول الأوروبية المتاخمة لليونان إلى فرض قيود مشددة على الدخول إليها عبر الحدود اليونانية، بدلا من الوضع الحالى، حيث رفعت كل القيود والحواجز تحت عنوان الشراكة الأوروبية.
وتعتبر مدينة أدرين التركية المتاخمة لليونان، نقطة تجمع المهاجرين غير الشرعيين، وكانت هذه المدينة أيضا نقطة تجمع المهاجرين اليونانيين أنفسهم الذين هاجروا من تركيا إلى بلادهم فى عام 1922 اثر الحرب التركية ــ اليونانية التى قادها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال (أتاتورك) وانتصر فيها. فطريق الهجرة اليونانية فى القرن الماضى أصبح طريق الهجرة إلى اليونان أو على الأصح طريق اليونان للهجرة إلى أوروبا.
أما النهر الثانى للهجرة إلى أوروبا فهو يتخذ من تونس منطلقا له ومقصده الأول والأساس إيطاليا.
كان هناك اعتقاد بأن الأنظمة الاستبدادية فى أفريقيا وحتى الأنظمة الأوتوقراطية فى شمال أفريقيا هى أحد أهم أسباب الهجرة. غير أن ما حدث بعد الثورة التونسية وسقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن على أسقط هذا الاعتقاد. ذلك أن الهجرة التونسية إلى أوروبا عبر جزيرة لامبادوسا الإيطالية تضاعفت بشكل مفاجئ. فقد وصل عدد المهاجرين إليها من التونسيين وحدهم نحو الخمسة آلاف أبحروا إلى الجزيرة فى زوارق صيد صغيرة.
ولشدة دهشتها، اتخذت الحكومة الإيطالية قرارا بإرسال وحدات أمنية ايطالية إلى تونس لمنع انطلاق المهاجرين غير الشرعيين إليها. وقد أثار هذا القرار غضب الحكومة التونسية الانتقالية القائمة رغم الوضع غير الطبيعى الذى تمر به البلاد إثر الثورة.
إذ كيف تسمح ايطاليا لنفسها بتجاوز السيادة التونسية إلى حد إرسال هذه الوحدات إلى الأراضى والى المياه الاقليمية التونسية. أدى الاعتراض التونسى إلى تراجع إيطاليا عن مشروعها، إلا أنها لجأت كما اليونان فى شرق المتوسط إلى الاتحاد الأوروبى للاستعانة به لفرض مراقبة جوية وبحرية تقطع الطريق أمام نهر المهاجرين المتدفق إلى أوروبا عبر ايطاليا.
كان هناك مصدر آخر للهجرة الأفريقية غير الشرعية عبر شمال أفريقيا إلى إيطاليا فأوروبا، وهو ليبيا. غير أن التفاهم الإيطالى (برلسكونى) والليبى (القذافى) أقفل هذا المصدر. فقد فرضت السلطات الليبية قبل انفجار الثورة ضد النظام، إجراءات مشددة للغاية على المهاجرين. كانت تعتقلهم وتزجهم فى معسكرات اعتقال فى الصحراء وتسومهم سوء العذاب حتى يتمنوا العدوة إلى بلادهم. أدت هذه الإجراءات إلى اطمئنان إيطاليا ــ وبالتالى أوروبا. غير أنه لدى اندلاع الثورة حدث أمران مثيران للاهتمام.
الأمر الأول هو إطلاق سراح هؤلاء المهاجرين من معتقلاتهم وإغرائهم بالمال وتزويدهم بالسلاح للتصدى للمظاهرات المعادية للنظام من أهل البلاد. وهو ما حدث فى بنغازى والبيضاء.. ثم فى طرابلس بالذات. أما الأمر الثانى فهو تهديد القذافى الدول الأوروبية بأنها إذا أدانت نظامه على خلفية الأعمال العسكرية، التى قام بها ضد معارضيه فإنه سوف يتحرر من التزاماته بشأن منع الهجرة غير الشرعية، وسوف يطلق للمهاجرين العنان إلى أوروبا. ولعل هذا التهديد، إلى جانب الخوف من توقف إمدادات النفط، كان وراء التريث المريب، الذى اتسم به الموقف الأوروبى تجاه أعمال القمع الدموية التى شهدتها المدن الليبية فى المرحلة الأولى من الانتفاضة الشعبية العارمة.
أما الممر الأخير، المغرب، فقد تم ضبطه بتفاهم مغربى ــ إسبانى وتمويل أوروبى. ولكن الاضطرابات، التى عصفت بالمغرب فى إطار موجة المطالبة بالتغيير، التى شملت مشرق العالم الغربى ومغربه، هزت من أركان هذا التفاهم إلى حد تجاوزه. ذلك انه بمجرد عبور الحدود المغربية، ضمن الأرض المغربية، إلى الجيب الإسبانى فى سبتة أو الجيب الإسبانى الآخر فى مليلية، فإن ذلك يشكل انتقالا من قارة أفريقيا (داخل أفريقيا) إلى قارة أوروبا! ولذلك فإن الجدار من الأسلاك الشائكة المكهربة والمرتفعة، التى أقامتها إسبانيا على طول هذين الجيبين، تشكل الحدود الفاصلة بين عالمين، أحدهما يمثل الاستمرار فيه كابوسا.. ويمثل الانتقال إلى الثانى حلما وأملا بغد أفضل.
بالنسبة لأوروبا تمثل الهجرة إليها كابوسا مقلقا وحلما جميلا فى الوقت ذاته. فالهجرة كابوس لأنها تحمل إلى أوروبا عناصر غير قابلة للاستيعاب أو للذوبان فى مجتمعاتها. وهى حلم لأن أوروبا تعانى من الشيخوخة، وتحتاج تاليا إلى الأيدى العاملة والشابة.. وهو أمر تحققه الولايات المتحدة بنجاح من خلال تنظيم الهجرة وليس بإقفال أبوابها.
ولذلك فإن أوروبا تحتاج إلى الهجرة وتحاربها فى الوقت ذاته.. وهى فى ذلك أشبه ما تكون ببطلة تراجيديا يونانية جديدة!