سنرجع يومًا
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 3 أبريل 2019 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
أمضيت يومين أتحرك ضمن شوارع ضيقة بيوتها متلاصقة حتى يكاد سكانها أن يشعروا بأنهم يتشاركون الغرف مع جيرانهم. هى أحياء تشبه أحياء كثيرة أخرى، فيها بيوت ومتاجر ومدارس وخدمات صحية، إنما فيها شىء يشعر الزائر أن الحى مؤقت ووضعه لن يدوم. فى الخلفية صوت فيروز تغنى «سنرجع يوما إلى حينا»، فى الواجهة أسلاك كهرباء على مد البصر تتلقى مطرا كثيفا ينذر بكوارث إذا تجمعت عندها المياه، «ونغرق فى دافئات المنى» تقول فيروز، بينما يغرق الحى أمامى بسبب هشاشة البنية التحتية وركاكة البنية الفوقية.
***
الجو بارد، أدس يدى فى جيوبى لكنى سرعان ما أنتبه أن ذلك قد يبدو قلة تهذيب من طرفى، كمن يمشى فى مكان غير آبه بما حوله، اليدان فى الجيب والفم يصفر. أخرج يدى وأكمل المشوار بين البيوت. عند كل زاوية أتوقف أو بالأحرى يستوقفنى مشهد، إما بسبب صاحبه، غالبا أحد كبار السن، أو بسبب حال ما أراه من مبان ومحلات يبدو لى أنها على وشك أن تنهار على رأس من فيها بسبب المطر وقلة الصلابة فى البناء.
***
يرافقنى فى المشوار زميل يشرح لى مراحل تطور الحى، أو المخيم كما يسمى هناك. سكنه من تم تهجيرهم من الفلسطينيين عام 1948، ثم لحق بهم من فقدوا بيوتهم أيضا من الفلسطينيين عام 1967، ثم أتى بعدهم آخرون فى موجات واكبت التطورات السياسية وحركات النزوح والهجرة المتتالية من فلسطين، حتى استقر آخر فوج ممن هربوا من الحرب فى سوريا. أنا إذا أمشى فى حى شهد طبقات من التشرد والبعد، عانوا جيلا بعد جيل من فراق الوطن والعائلة وخلقوا لأنفسهم عائلات بديلة فى أحياء استبدلوا فيه الخيم بالعمران العشوائى فيما بعد.
***
لا أعرف متى توقفت عن الاستماع لزميلى، قد يكون ذلك فى منتصف الزيارة، وتركت لمخيلتى حرية تخيل قصة من آلاف القصص بعد أن نظرت من خلال نافذة متربة إلى بيت لم أتبين ملامحه فى أول الأمر بسبب المطر والضوء الباهت فى داخله. هنا تعيش أسرة من يافا، ما زالت الجدة تحرك الحرف الثانى فى الأسماء فتقول «بَحَرْ» بفتح الحاء بدل بحْر بسكونه. هى ككثيرين مثلها، بالنادر ما يتسنى لها زيارة البحر فى بلدها المضيف، رغم قرب مخيمها منه. لكنها حين تنظر إلى الزرقة فإنها ترى بَحَرها كما عرفته فى صباها فى يافا. هناك، حيث بيت العائلة ما زال محفورا فى ذاكرتها رغم سنوات طويلة من البعد، تعود صبية مرحة تتحرك فى شمس المدينة، أو شَمِسْ بكسر الميم، هكذا يلفظها أهل يافا.
***
هنا فى المخيم، الحيوات فى طبقات، والقصص فى القلوب وعلى الألسن، والحكايا لا تنتهى عن أمسيات ذهبت ولا إشارة اليوم أنها ستعود. أتذكر فجأة قصة اللجوء الفلسطينى أو أعيد النظر فيه، قصص بساتين الفاكهة وأشجار الزيتون، قصص بيوت قديمة أرضها من بلاط ملون ومفاتيح سكانها صدئة اليوم. الحى من حولى يشى بثقل القصة وتعقيدها. يشرح لى زميلى انعكاس السياسة هناك على العلاقات والتوتر هنا. ما يهمنى أنا فى المقام الأول، بعيدا عن السياسة، هو القصص، وتصور كبار السن لحياتهم وإشاراتهم الدائمة إلى ماضيهم وماضى عائلاتهم. تعلقهم بتفاصيل ووصفهم لأشخاص وأماكن مذهل بدقته، «أنا من يافا» تقول الختيارة وأنا صدقا لا أعرف كيف أجيب، إذ هى اليوم من هذا المخيم ويافا لم تعد لها. وفيروز تغنى ورأسى يصدح ــ دعيها تقول ما تريد.
***
الهوية والانتماء موضوعان يشغلانى طول الوقت. اليوم فى زمن القرية الصغيرة ها هو الطفل الصغير يؤكد أنه من هناك، حيث البحر والشمس، كلاهما بتحريك الحروف، حيث اسم جده معروف وحيث لعائلته عز. ما أدراه ذلك الصغير بيافا، ما الذى يجعله يؤكد بحزم على انتمائه، هو الذى ربما لم يخرج قط ليس فقط من هذه المدينة إنما من حيه، من المخيم الذى نزح إليه جده منذ عقود مضت؟
أظن أن للمشرق قدرة خانقة على التمسك بأبنائه، حب يلتف حول الفم فيمنع كلمات تنصل من هذه البلاد. فى بلاد التين والزيتون والبرتقال وماء زهر الليمون، أختنق وأتمنى لو كنت ممن استطاعوا أن يعيدوا تعريف أنفسهم بهويات جديدة. بلاد الشام تتمسك بأبنائها فيصبح الرحيل مستحيلا، ليس رحيل الجسد فذلك سهل، إنما رحيل القلب. لا أعرف متى بدأت أعرف عن نفسى ك «مشرقية» بالمعنى الواسع لبلاد الشام، وذلك رغم تعلقى بالقاهرة وسهولة تحركى عموما بين الثقافات، لكن على المحك أنا من الشام، كما تعرف فى الكتب القديمة، مجموعة بلاد فيها بحر وشمس وآثار وبرتقال.
***
هنا فى مخيم للاجئين فى لبنان، حيث يفرد من أقابلهم حكاياتهم من حولى كأنها مفارش ملونة، أمد يدى لألتقط قطعة حلوى يضيفنى إياها صاحب دكان وأقول «دايم عزك»، فهو فعلا ابن عز وها هو يعطينى الحلوى، بينما أمه تنظر إلى نقطة لا أراها وتؤكد لى هى أنها بلدها، هناك، بعد الـ «بَحَرْ» بفتح الحاء.
كاتبة سورية