التجربة الأندلسية فى التعايش
يوسف الحسن
آخر تحديث:
الأربعاء 3 أبريل 2024 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
تميزت الأندلس، فى العصر الإسلامى، بالتنوع الثقافى وتعايشت فيها أعراق وأقوام وديانات ولغات وثقافات متنوعة، فكان هناك الإسبان الأصليون، ومن جذور قوطية ورومانية ومغربية، ويعتنق أغلبيتهم النصرانية، ولهم تراثهم اللغوى والحضارى. وقد آثروا استمرار العيش فى ديارهم الأندلسية، ولم يجبرهم أحد على هجرة قراهم ومدنهم، أو الانتقال طوعًا إلى الممالك النصرانية فى شمال إسبانيا، وكفلت لهم الأندلس بنظامها العربى الإسلامى حرية العقيدة، وممارسة طقوسهم الدينية، والتى كانت تُقام باللغة اللاتينية فى الكنائس والأديرة، ووفق التقاليد الكنسية المعتادة، ويحكمهم قضاؤهم الإكليركى، وبقى كرسى المطرانية الكبرى فى مكانه الأصلى فى طليطلة بعد أن قطع علاقته مع كنيسة روما، واستمرت الكنائس فى تأدية وظائفها الاجتماعية بحرية كاملة.
ومع مرور الوقت، استعربت هذه الأقوام، فى لغتها وعاداتها، وتفاعلت مع الوافدين الجدد بالجوار والمصاهرة والعيش المشترك، وفى إطار من التسامح والاحترام المتبادل.
تشكل المجتمع الأندلسى الجديد من أجناس متعددة، عناصر عربية مسلمة، وصقالبة أوروبيين ونورمانديين ينتمون إلى شمال أوروبا اعتنقوا الإسلام، وانخرطوا فى الحياة السياسية والثقافية والعسكرية للأندلس.
لم تكن أوروبا، فى تلك الأزمنة، سواء فى زمن الرومان أو القوطيين الذين اجتاحوا جنوب أوروبا، تعرف أو تقبل هذه الظاهرة التعددية والتنوع الثقافى.
ويقول المؤرخ الفرنسى إرنست رينان (1823ــ1892): «لم يحدث فى التاريخ أن فاتحًا (غازيًا) فعل ما فعله العرب فى إسبانيا من تسامح واعتدال مع المغلوبين وصارت اللغة العربية منذ القرن العاشر الميلادى هى لغة مشتركة للمسلمين والمسيحيين واليهود، وكانت الثقافة الأدبية لليهود فى العصر الوسيط قبسًا من الثقافة الإسلامية الأندلسية».
ومع استقرار الحكم العربى الإسلامى فى الأندلس، وبخاصة فى المدن، صارت اللغة العربية عنصر توحيد لذلك المجتمع، وعبر الكثير من الألفاظ والمصطلحات العربية إلى أوروبا عبر الأندلس بفعل وسائل التواصل العلمى والأدبى والفلسفى التى أنتجتها الأندلس، وانتشرت فى جنوب أوروبا كلها، وشكلت مصدر إشعاع حضاريًا ولغويًا وفكريًا.
تمثل التجربة الأندلسية فى التسامح والتعايش، والتى دامت أكثر من سبعة قرون، نموذجًا حافزًا متجددًا، يسلط الأضواء، ويفتح الأبواب أمام معالجات لمعضلات الحاضر التى تواجهها مجتمعات عربية وغير عربية، من تعصب، وكراهية، وإقصاء واستكبار.
تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (1913ــ1999) صاحبة كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» الذى صدر قبل أكثر من ستة عقود: «ولعل من أهم عوامل انتصار العرب هو ما فوجئت به الشعوب الأخرى من سماحتهم، إن هؤلاء المنتصرين لا يأتون كمخربين، والتاريخ لا يقدم لنا فى صفحاته الطوال إلا عددًا ضئيلًا من الشعوب التى عاملت خصومها والمخالفين لها فى العقيدة بمثل ما فعل العرب، وكان لمسلكهم هذا أطيب الأثر، ما أتاح للحضارة العربية أن تتغلغل بين تلك الأمم بنجاح لم تحظَ به الحضارة الإغريقية ببريقها الزائف ولا الحضارة الرومانية بعنفها فى فرض إرادتها بالقوة».
جذبت الأندلس، فى أوج ازدهارها، كما تقول المستشرقة زيغريد هونكه عشرات الآلاف من اليهود والنصارى إليها، «وتدفق إليها الطلبة من كل أنحاء الدنيا، وعلى قرطبة بالذات، ليتعلموا فيها، وبخاصة بين القرنين الثامن والحادى عشر».
وتقول أيضًا: «لم يقضِ عرب الأندلس على النصرانية، ولا على «المدنية الغربية» التى لم يكن لها وجود، لقد حولوا الأندلس من بلد جدب فقير مستعبد إلى بلد عظيم مثقف ومهذب يقدس العلم والفن والجمال والأدب، وقدم لأوروبا سبل الحضارة، وقادها فى طريق النور».
تجربة الأندلس فى التعايش ذات معنى كبير فى تاريخ العالم بالتزامن مع إنجازات غير مسبوقة فى العلوم والآداب والفلسفة والترجمة والرفاه الإنسانى.