لو حاولت أن أختصر بيروت برائحة خاصة بها فسوف تكون رائحة الفرن الصغير الذى يخبز المناقيش للحى كل صباح، مناقيش الزعتر تحديدا. فى المساحة الصغيرة التى يقف فيها السكان أو المارون، تطغى رائحة زيت الزيتون الدافئ على المكان، وأكاد أشم رائحة السمسم على الرغم من أنه بلا رائحة، إلا أن خلطه بالزعتر جعل له عطرا هو الآخر. بين بيروت ومنقوشة الزعتر ارتباط لا أحاول أن أفكه.
***
لكل مدينة روائح خاصة بها، تلتصق بذاكرة المكان فتحضره إلينا حتى حين نكون بعيدين. ربما أن المدن، كالناس، تداعب الروح عن طريق الحواس. ربما للمدن، أيضا كما للناس، قدرة على جعل من يحبها ينسى ــ وهو بعيد ــ مساوئها ولا يتذكر سوى شمس ربيعها على أجساد لم تتخلص بعد من ملابس الشتاء، أو يتذكر سحر مقاهيها القديمة، التى ربما لم تعد أصلا موجودة بعد أن تربعت المطاعم الجديدة فى مكانها. ربما يتذكر الكثيرون شوارع ضيقة وحارات سمعوا عنها، ربما أسترق النظر إلى سيدة مسنة تجلس على شرفة بيتها فى الطابق الأول من عمارة فى شارع صغير، فأتمنى أن أكون مثلها حين أصل إلى سنها. شعرها أبيض ومصفف بعناية من جلست أمام مرآتها فى المساء قبل أن تجلس فى الشرفة، أمامها طاولة صغيرة وضعت عليها كأسا ترشف محتواه بينما ترد السلام على من يمر أمامها. فى شوارع بيروت الملتوية يكاد سكان الطوابق الأرضية أو الطوابق الأولى أن يكونوا جالسين فى الشارع، فشرفاتهم كثيرا ما تكون أعلى من الرصيف قليلا، لذا فمن الطبيعى أن يسلم المارة عليهم خصوصا لو كانوا أصلا من أهل الحى. «يا أهلا تفضلوا» تقول السيدة.
***
أبتسم إذ أتذكر رجالا كبار السن فى دمشق، يجلسون إما على شرفة بيتهم أو فى حديقته الأمامية مع ترك بابها الصغير مفتوحا، فيرون المارة ويتسلون بالسلام والكلام. يلقى من يمر أمامهم سلاما سريعا فيقف الرجال نصف وقفة من على كراسيهم الصغيرة، أى دون أن يفردوا أجسادهم تماما إذ أنهم لا ينوون أصلا القيام، وهم يقولون: «أهلين أهلين فوت شراب شاى»، هى نصف دعوة كما كان القيام من على الكراسى نصف قيام.
أظن أن روح المدن هى فى حركة ناسها وسلوكياتهم وليست فى جمال أبنيتها أو غنى طبيعتها. بالنسبة لى، فإن مراقبة المارة واستراق السمع إلى كلمات بين البائع والمشترى، ورؤية نظرات يتبادلها شخصان اعترض طريقهما المتعاكس شى على الرصيف اضطرهما أن يغيرا من مشيهما، هى أشياء أعتبرها شديدة الدلالة على الثقافة المحلية، وأتلذذ بمحاولة فك شيفرتها كمدخل إلى ثقافة البلد السلوكية.
***
أبتسم فى الشارع بلا سبب، أستطيع أن أملأ صفحات من الغزل فى حب بيروت، وأتناسى، وأنا قاصدة ذلك، المشاعر المختلفة التى تثيرها فى نفسى تلك المدينة شديدة التعقيد، شديدة القسوة، شديدة الحرية، شديدة الفرح وشديدة البؤس. أتناسى أيضا، وعن قصد قربها الشديد من دمشق، وعلاقة دمشق الإشكالية معها، فمن جهة لطالما نظرنا، من داخل سوريا، إلى بيروت على أنها المرجع فى الثقافة والفن والإبداع والأناقة والحريات عموما، ومن جهة أخرى هى مدينة مخيفة بانفتاحها وحربها وعنف ما حل بها وقدرتها على إعادة خلق نفسها، هى مدينة لطالما أثارت عندى مزيجا من الفضول والغيرة، أنساه بمجرد أن أشم رائحة الزيت والزعتر وهواء البحر. لهجة أهلها قريبة من اللهجة السورية مع اختلافات يعرفها اللبنانيون والسوريون جيدا، وكثيرا ما يبنون ردود أفعالهم تجاه بعضهم البعض عليها.
وأنا من مكان إقامتى القاهرية أشتاق للمشرق، فأرى أمامى حارة لا أعرف أحيانا إن كانت فى بيروت أو فى دمشق، أسمع صوت سيدة مسنة، فأرى شرفة على طابق فوق الرصيف تجلس فيه «ختيارة» صففت شعرها الأبيض. حائط العمارة من الحجر المصفر والشبابيك خشبية طويلة أرى وراءها بلاط الأرض الملون بقطعه المربعة. أتخيل غرفة فى وسط البيت، على جوانبها أبواب مغلقة كانت يوما غرفا لأطفال السيدة، غطت اليوم أثاثها بقماش أبيض تحسره عنها فى الصيف حين يزورها أولادها أثناء إجازاتهم.
***
أدخل إلى فرن الحى، وأمد يدى وفيها حفنة ليرات لأشترى الخبز الطازج فيرد على الخباز «معوضين».
«معوضين»؟ هل لمرادف أشرحه لأصدقاء لا يفهمون اللغة العربية، عن معنى أن تدفع للبائع فيتمنى لك أن يعوضك الله عن ذلك المبلغ؟ كيف أشرح أن قلبى يتوقف عن النبض للحظات مع كلمة «معوضين»، والتى لم تعد أصلا تستخدم فى كثير من الأوساط لا سيما الشبابية منها، إنما هى كلمة غاية فى الكرم وغاية فى الحب؟ بم كان جدى يرد على هذه الكلمة؟ لا أعرف.
***
للمدن روح تظهر من بين أحواض الزرع على الشرف، تتراقص فى هواء المكان على شكل كلمات يقولها شاب لفتات فتحمر وجنتاها وتبتسم. هى كلمات ملتصقة بمبانى المدينة القديمة وبقلوب أهلها. «أنا بأمر عيونك» يقول لى الشاب من أمام فرن المناقيش، يا لجمال التعبير، ويا لسخونة الرغيف الملفوف الذى أستلمه وكأنه هدية. آكل لقمة من بيروت وأكمل طريقى ملوحة بيدى للسيدة فى الشرفة.