قوس قزح شم النسيم
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الإثنين 3 مايو 2021 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
عيد شم النسيم من أحب الأعياد إلى قلبى. أردد هذه الجملة كل سنة مع انشغال من حولى فى العالم الحقيقى والافتراضى بالتحضير ليوم أظنه الوحيد الذى يجمع كل المصريين على اختلافاتهم الدينية والطبقية. هو كعيد يوم الشكر فى الولايات المتحدة، عيد يحتفل به الجميع دون تمييز ودون سؤال: كل من ولد فى مصر يحتفل بعيد شم النسيم، اليوم الذى حدده قدماء المصريين على أساس مساواة ساعات النهار والليل فى ذلك اليوم من السنة، ثم أعيد تحديده فى اليوم التالى لعيد الفصح، وارتبطت به عادة تلوين البيض بالعادة نفسها فى عيد الفصح وأصبحت فترة من السنة مبهجة واحتفالية بغض النظر عن الخلفيات والاختلافات مرة واحدة فى العام.
***
منذ أن تركت وعائلتى القاهرة كمكان للسكن الدائم، صرت أعدد بشكل دورى أشيائى المفضلة فى مصر. كأن أفكر بكوبرى قصر النيل وبالأسدين عند مدخله وانعكاس الأنوار مساء على النهر من تحته والمراكب السياحية الصغيرة التى تتأرجح بانتظار الركاب خصوصا عند الغروب. تحولت علاقتى بالقاهرة إلى سلسلة من الأشياء المفضلة تترأسها رائحة العيش البلدى أى الخبز الطازج فى الصباح، ثم صوت حوافر حصان يجر عربة على الطراز القديم تحمل زائرين أجانب فى جولة متكاسلة فى شوارع حى الزمالك، وهو حى يحاول سكانه أن يتمسكوا ببقايا حقبة ذهبية لم يبقَ منها سوى نثرات تظهر أحيانا على وجه النيل أو فى زاوية شارع لم تأكله المقاهى والمحلات التجارية. ما علينا، للزمالك كحى عاش العز ثم سقط من مكانته العالية حديث آخر.
***
أعترف أننى فى شم النسيم أنضم للأصدقاء المصريين فى احتفالاتهم دون أن أشاركهم الطقوس، فلا آكل السمك المملح ولا ألون البيض، لكنى أدافع بشدة عن قدسية اليوم وضرورة الاحتفال به. أظن أننى قليلا ما عرفت أعيادا لا تتخذ من الدين أو من الانتصارات فى الحروب اسما لها أو ذريعة، وذلك بحد ذاته بالنسبة لى انتصار: أن يجمع الناس على اختلافاتهم على يوم للاحتفال بعيدا عن تطبيل الدول ومحاولات التمسك بانتصارات لم تعد تعنى الكثير اليوم خصوصا فى ظل إعادة قراءة التاريخ بأشكال أكثر نقدا وأقل حماسا، أو ربما أنا أعيد القراءة بعدسة أوسع اليوم، عدسة أقل سذاجة، أو هم المسافة والبعد والاستيقاظ المتكرر من الخيبات ثم مقارنة الخيبات بالخطاب الرسمى والإقرار بأننى بغنى عن محاولات الحكومات بالتلاعب بعقلى.
***
هكذا إذا يدخل الربيع بألوانه المبهجة وشمسه التى تلى رياح الخماسين وترابها، يبتهج الناس من حولى وكأن يدا كبيرة داست على زرار يرش السعادة، سعادة قصيرة الروح فهى ستختفى غدا تحت طبقات من الضجر والتلوث والسياسة والجائحة والاختلافات الدينية ومحاولات التضييق على الآخر والحكم عليه وأحيانا حتى إعدامه فى عملية مجتمعية محكمة تقضى على أى محاولة للنقاش.
***
أعود إلى شم النسيم وعيد القيامة الذى يسبقه، مناسبتان مقدستان لا تحتملان المساس بهما. من قلة مصادر السرور أرى صنبورا للنكات فتحه أصدقائى المصريين حول تصريحات رسمية تصف يوم الأحد، أى يوم عيد الفصح، بيوم منع التكدس، وذلك درءا للجائحة. لقد أعطى أصدقائى المصريون الموضوع حقه وها أنا آخذ حقى من المرح والاستمتاع بروح النكتة والخفة فى التعامل مع الأهوال التى لطالما حاولنا، كشعوب تعانى الأمرين فى السياسة وفى الاقتصاد، أن نواجه بها حظنا العاثر الذى أسقطنا فى هذه المنطقة فى العالم دون غيرها.
***
صوت سعاد حسنى وهى تغنى «الدنيا ربيع»، عودة شريهان نجمة القلوب حتى لو فى إعلان لشركة اتصالات يشتكى الكثيرون من سوء خدمتها، عيد القيامة المجيد الذى لطالما تشارك به المسلمون والمسيحيون بحكم أن الدنيا ربيع والألوان مبهجة وكعك العيد ليس حكرا على طائفة دون غيرها. حاول البعض فى أول هذا القرن على ما أظن أن يحرموا تهنئة المسلم لغير المسلم بأعياده لكنى أرى ظاهرة معاكسة فى السنوات العشر الأخيرة مع حرص يبدو أحيانا مبالغا به بالمسارعة والإكثار من التهانى العابرة للأديان، لكنى لن أغضب من المبالغة فى التهنئة وسأوفر غضبى من محاولات تحريمها.
***
كل عام والربيع مناسبة للاحتفال، كل عام وعيد الفصح يلون الفضاء الحقيقى والافتراضى بألوان فرحة، كل عام وشم النسيم يوحد المصريين ويثير بعض الغيرة عند غيرهم من الشعوب التى لا عيد غير قومى وغير دينى يجمعها. كل عام وثمة لقطات صغيرة تعيد للحياة بهجتها، كأن يخرج الناس إلى البساتين والحدائق احتفالا بالحياة، طبعا كل عام دون جائحة تمنع هكذا احتفالات! كل عام ونحن بصحة، دون جائحة، وسلامة، دون تسييس، وسعادة، دون تدخل فى شؤون غيرنا الدينية والطائفية. هو يوم واحد فى السنة يتفق عليه من لا يتفق على أى شىء آخر فى الأيام الأخرى. شم النسيم دمغة لا يمحوها أحد فى مصر ــ تلى يوم القيامة المجيد، قوس قزح على خلفية سماء أغلب وقتها ما عدا ذلك اليوم رمادية.