دعوة للتفاؤل
محمد الهوارى
آخر تحديث:
الجمعة 3 يونيو 2022 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
من أطرف، وأحياناُ من أدق المؤشرات التى نتابعها عند اتخاذ قرار بيع أو شراء أحد الأصول هو مؤشر المزاج العام Public Sentiment وهو مؤشر يقيس مزاج جمهور المتعاملين والمحللين تجاه أحد الأصول. وهو مؤشر طريف لأن دلالته عكسية. فعندما يتحمس جمهور المتعاملين لسهم أو سلعة، فهذا يزيد احتمالات هبوط سعرها والعكس صحيح. ولا نحتاج إلى الكثير من البحث والتحليل لنتعرف على المزاج العام تجاه الاقتصاد العالمى خلال الفترة الجارية. يكفى أن تفتح صفحات التواصل الاجتماعى لتجد مزيجا هائلا من التحليلات السلبية تصدر عن متخصصين وغير متخصصين. واليوم أستطيع أن أقول إنه فى تقديرى وبناء على هذا المؤشر ومؤشرات أخرى فإن الاقتصاد العالمى سيتعافى وبقوة فى فترة وجيزة نسبيا.
لا أريد أن أخوض فى التحليلات المختلفة التى قرأتها للأوضاع الجارية، فالتحليل الاقتصادى بحاره واسعة واحتمالات الخطأ فيه مرتفعة حتى للمتخصصين، فما بالك بغير المتخصصين. تعلمت فى العشرين عاما التى قضيتها فى هذه المهنة أن أنتقى التحليلات التى تستحق المتابعة، فلا أضيع وقتى على غيرها بدون سبب وجيه. كذلك تعلمت أن أضيف إلى هذه التوقعات نسبة خطأ مقبولة وأن أتخذ قرارات الاستثمار بناء على كل ما سبق مع اتخاذ معايير إدارة المخاطر المعقولة. ولكننى سأتطرق لأكبر المغالطات التى تكررت فى تحليلات المتخصصين التى رأيتها:
١ــ خدعوك فقالوا الاقتصاد العالمى يمر بمرحلة ضعف. العكس صحيح، المشكلة الحقيقية أن الاقتصاد العالمى قوى جدا، أقوى بكثير من القدرة الانتاجية العالمية وذلك بسبب فيروس كورونا الذى تولد عنه نوعان من المشكلات: أولاهما مشاكل سلاسل التوريد والتى أثرت على الانتاجية. والمشكلة الثانية أن معدل الإدخار العالمى المرتفع الذى كان عادة ما يتم توزيعه بين السلع والخدمات أصبح يصرف فقط على السلع، لأن الصرف على الخدمات مثل المطاعم والسفر تأثر أيضا بالفيروس. نتج عن ذلك ارتفاع التضخم إلى مستوى فاق المتوقع وبالتالى بدأت البنوك المركزية فى «تبريد الاقتصاد» Cool Down وهذا صميم عملها حتى تكسر شوكة التضخم مما يساعد الاقتصاد العالمى على استكمال النمو بمعدلات صحية.
٢ــ خدعوك فقالوا عصر التمويل الرخيص قد ولى. وهم بذلك يشيرون إلى رفع الفيدرالى الأمريكى لمعدل الفائدة مما ينذر بالدمار للدول النامية. بينما أكتب هذا المقال تتداول سندات أجل العامين للحكومة الأمريكية بمعدل فائدة ٢،٥٪ والعشر سنوات وهى الأهم بمعدل فائدة ٢،٨٥٪. استطاع الاقتصاد العالمى أن ينمو فى أوائل الثمانينات عندما كان معدل الفائدة أكثر من ١٣٪، ونما أيضا فى التسعينيات بمعدل فائدة أكثر من ٧٪. وحدث الشىء نفسه فى بداية الألفية بمعدل فائدة أكثر من ٥٪ وكذلك دخل فى ركود بمعدل فائدة كان أقل من ٤٪. معدل الفائدة وحده ليس مؤشر لضعف أو قوة بالعكس فرفع معدلات الفائدة فى أغلب الأوقات يحدث بالتوازى لقوة الاقتصاد. حتى اقتصادات الدول النامية لم تتأثر كلها فاقتصادات الدول المصدرة وصاحبة الماليات القوية لم تتأثر بشدة حتى ان الريال البرازيلى سعره ارتفع مقابل الدولار منذ بداية العام.
٣ــ خدعوك فقالوا إننا بصدد موجة شديدة لرفع الفائدة ستستمر لسنوات وهذا توقع خاطئ ينبئ عن فهم سطحى للأمور. يبدو أن مروجى هذا الكلام لم يسمعوا محافظ الفيدرالى عندما أعلن عن خططه بل وأعطى أمثلة من سنوات سابقة. ما يفعله الفيدرالى هو Front Loading للتشديد النقدى أى أنه يريد أن ينجز الجزء الأكبر من التشديد فى البداية لكسر شوكة التضخم والعودة من جديد لسياسته المعتادة. محافظ الفيدرالى يتم تعيينه والتجديد له بقرار من الرئيس الأمريكى ومع أن المحافظ الحالى «جيروم باول» ينتمى إلى الحزب الجمهورى فقد قرر الرئيس بايدن المنتمى للحزب الديمقراطى التجديد له فى أواخر العام الماضى. وقد جاء هذا التجديد بالتأكيد بتفاهمات ومواءمات سياسية أهمها فى رأيى كان كسر شوكة التضخم قبل الانتخابات النصفية فى أواخر عام ٢٠٢٢ ولن أتعجب إذا كانت حالة الأسواق أيضا من ضمن بنود الاتفاق.
٤ــ عادة ما تأتى نتائج سياسة التشديد النقدى خلال عام ونصف العام من بداية تطبيقها ولكنى أتوقع أننا سنرى الأسعار تنكسر قريبا جدا وأتوقع أن نصل لمعدل تضخم قدره ٢،٥٪ فى أواخر عام ٢٠٢٣ فى الولايات المتحدة مما سيشكل انكسارا سريعا وقويا للتضخم. مستهدف التضخم فى أمريكا وأوروبا ٢٪ ولكن أتوقع أن يبقى معدل التضخم فوق المستهدف بقليل لعدة سنوات ولكنها زيادة فى حدود المعقول والمقبول.
٥ــ تبقى بعض المخاطر مثل الحرب الروسية الأوكرانية واستمرار سياسة حظر التجول فى الصين فيما يُعرف باسم سياسة الكوفيد الصفرى Zero Covid Policy. ولكن للأمانة لا أرى تهديدا مبالغا فيه من أيهما وتبقى إمكانية نهاية أى منهما أو كليهما كعامل دعم إضافى قوى للاقتصاد العالمى. مازالت روسيا تسدد أقساط ديونها للمستثمرين الغربيين مما قد يعنى أن بوتين يرى إمكانية عودته لهذه الأسواق فى وقت ليس ببعيد. كذلك الوضع الروسى الحالى يستبدل تبعية للغرب بتبعية أسوأ للصين تشابه وصف غاندى لأولى درجات الاستعمار عندما كان يأخذ الاستعمار الإنجليزى المواد الخام ويصنعها ويعيد بيعها لمصادرها كمنتج نهائى بسعر أعلى ولا أتخيل أن روسيا ترغب فى استمرار هذا الوضع لوقت طويل.
هذا المقال كما يظهر فى عنوانه هو دعوة للتفاؤل ولكنه تفاؤل حذر يدعو للعمل. بينما أتوقع ان تنفتح أسواق التمويل الدولية فى خلال شهور وليس سنوات كما يتخيل البعض، فيتوجب علينا أن نقدم للعالم خطة عمل اقتصادية واضحة تكون مقبولة من القائمين على مفاتيح التمويل العالمى حتى نستفيد من التمويل منخفض التكلفة كما فعلنا فى السنوات الماضية. كان أحد مدرسين الحساب يقول لنا اكتبوا خطوات الحل فربما لا تصل للحل الأمثل ولكن كل خطوة فى الاتجاه الصحيح لها درجاتها. هذا ما تريده أسواق التمويل العالمية اليوم أن نقول لها ما هى خطتنا للخروج من الأزمة وبالتالى تبدأ فى استعادة الثقة فى قدرتنا على الاستمرار.