فلسطين تضيع فى هوة الانقسامات العربية
طلال سلمان
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 يوليه 2018 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
الوطن العربى يتشظى. لا المشرق مشرق واحد بل هو ممالك وإمارات وسلطنات وجمهوريات وحروب تدمر الدول ووحدة الحاضر واحتمالات المستقبل الواحد: الصغير بات أعظم بثروته من الكبير وأقدر على التعامل مع الدول الكبرى (مثال قطر، ومصر).. أما المغرب فأشتات مبعثرة: ليبيا التى تفردت بأن تكون «الجماهيرية الأولى» فى التاريخ اندثرت دولتها الغنية مع سقوط القذافى ونظامه.. أما تونس التى كانت مثال الاستقرار فلم تستطع دخول المستقبل لأن ماضيها أفضل من حاضرها. فأما الجزائر فقد غادرت موقعها الثورى الناصع.
الأخطر: أن الهوية الجامعة تكاد تسقط.. فلا تكفى الكوفية مع العقال لتحديد الهوية طالما النفط أو الغاز هو مصدر الثروة والمكانة وليس الهوية التى تغدو فاصلا ولا تعود جامعا، اذ يبتعد أهل الكوفية والعقال بثرواتهم عن إخوتهم الفقراء، بل ويستغنون عنهم مفضلين العمال والخبراء والمهندسين الذين لا ينطقون بلغة الضاد.
لقد باتت الكوفية مع العقال فاصلا بين عرب الثروة وعرب الفقر، بمعزل عن اللباس – الهوية، فمال النفط والغاز يذهب إلى الحكام ومن معهم، وإلى دول النفوذ الخارجى بالعنوان الأمريكى ــ البريطانى ــ الفرنسى.. ونادرة هى الحالات التى مدت فيها حكومة الذهب الأسود أو الأبيض يدها لمساعدة إخوانها الفقراء.
صار النفط ومعه الغاز هوية، تفرق بين العرب الذين كانوا أمة واحدة فانقسموا إلى أغنياء ينفقون أموالهم بلا حساب، ومعظمها يذهب إلى الغرب الامريكى.
***
فى ظل هذ التشرذم سقطت الهوية الجامعة، فالمصالح هى المصالح، وهى أقوى من الهوية.. والعرب الأغنياء استغنوا عن هويتهم بالذهب، أسود وأبيض.. وفلسطين، قضية الأمة المقدسة، وحقوق وطنية للشعب فى أرضه، ورمز تحرر الأمة وتقدمها على طريق غدها، كل ذلك مكلف جدا ليس فقط فى الإطار المادى بل أساسا فى السياسة.. والسياسة علاقات والعلاقات تتطلب المرونة، والمرونة قد تفرض التنازلات، والأسهل هو تقديم التنازلات من حساب «القضية» خصوصا وأن هذه القضية «أكبر» من أهلها، وأقدس من أن يستطيعوا الحفاظ عليها، ثم إنها مكلفة جدا.. والسعى إلى «حلها» بالتنازل قاتل!
مع سقوط الهوية الجامعة «تحررت» الدول من «أحجامها». صارت الثروة هى التى تحدد الحجم والدور.. من هنا، مثلا، أن قطر، الجزيرة المن غاز استطاعت، فترة، أن تتحكم بقرار جامعة الدول العربية، فترغمها أو «تقنع» دولها، لا فرق، «بطرد» سوريا من هذه الجامعة، وهى التى كانت بين الدول الخمس التى قررت إنشاءها (وقيل إن ذلك قد تم بطلب من بريطانيا..) ثم إن هذه الدولة الصغيرة بمساحتها وعديد سكانها تلعب دورا خطيرا على المستوى العربى بل وحتى على المستوى الدولى، ويمكنها أن تتمرد ــ بعد الجامعة العربية ومعها على مجلس التعاون الخليجى، ويحظى أميرها بالحفاوة فى البيت الأبيض الأمريكى كما فى قصور القياصرة الروس بشخص فلاديمير بوتين.
بل إن قطر هذه أمكنها أن تقدم منطقة العيديد فيها، المحاذية للسعودية للولايات المتحدة الأمريكية لتقيم فيها أكبر قاعدة عسكرية فى منطقة الخليج العربى.. ثم «تجرأت» فسمحت لتركيا بإقامة قاعدة عسكرية فيها.
وقبل هذا كله ومعه، أقدمت قطر على الاعتراف «بدولة إسرائيل» وأقامت علاقات دبلوماسية معها، متجاوزة إرادة الأمة، ولأسباب غير مبررة، فلا حدود مشتركة لها، مثلا، مع دولة الكيان الإسرائيلى، ولا مصالح مشتركة.. إلخ.
مع سقوط فلسطين كقضية مقدسة للعرب بمجموعهم انفض عقد الدول العربية، وتهاوت مكانة جامعة الدول العربية ومؤسساتها التى مثلت، ذات يوم، الطموح إلى الوحدة أو الاتحاد أو التجمع أو التنسيق ولو بالحد الأدنى.
***
تفرق العرب أيدى سبأ، واستقلت دول النفط والغاز بثرواتها، وصار الأمريكى الأقوى «الضامن» لأمن الأغنياء، أقرب إلى عواصم هذه الدول من الاخوة الاشقاء، لا سيما الفقراء منهم الذين كانوا ــ فيما مضى ــ يتلقون شيئا من المساعدة أو الهبات أو «الشرهات» من الأشقاء الأغنياء. صارت العلاقات بين «دول» تعززها أو تضعفها وحدة المصير بعنوان القضية المقدسة، فلسطين، وضرورة تحريرها كشرط للتقدم خطوة باتجاه وحدة القرار.
تفرق العرب أيدى سبأ، و«استقلت» كل دولة بقرارها المستند، غالبا إلى ثروتها الطبيعية التى كانت وما زالت وستبقى، حتى إشعار آخر، فى أيدى الدول العظمى بالعنوان الأمريكى المفرد.
ولأن الثروة هى المعيار، فقد تصاغر دور الدول العربية ذات التاريخ حتى الماضى القريب، لتتصدر الدول الأغنى المواقع القيادية، فتنشئ مجلس التعاون الخليجى «لتستقل» بقرارها عن إخوتها الفقراء، ويطوى علم فلسطين ــ القضية المقدسة ــ فى حين يسقط الحرم عن «دولة إسرائيل» كعدو للأمة فى ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
واندثر التضامن العربى وانتقلت الدول العربية إلى التآمر على بعضها البعض. والكل يعرف أن أكثر من دولة عربية شاركت وتشارك فى الحرب فى سوريا وعليها.. كذلك فإن دول النفط والغاز قد مارست فى فترات معنية ــ ضغوطا على مصر مستغلة أوضاعها الاقتصادية الصعبة، وعلى العراق، لا سيما بعد الاحتلال الأمريكى، وعلى لبنان لإخضاعه سياسيا.
المتضرر الأكبر من هذه التحولات والانقسامات و«الحروب» العربية – العربية هى القضية التى كانت مقدسة والمطروحة الآن فى بورصة التنازلات: فلسطين... فاللقاءات العربية ــ الإسرائيلية تتزايد، سرا وعلنا، والتضامن العربى يتلاشى. وكانت ملفتة للاهتمام الزيارة «المفاجئة» التى قام بها رئيس حكومة العدو الإسرائيلى، نتنياهو، إلى العاصمة الأردنية حيث التقى الملك عبدالله بن الحسين مباشرة، بعد استدعائه إلى الرياض، إثر التظاهرات الشعبية التى ملأت شوارع عمان، والتى دفعت دول مجلس التعاون إلى تقديم مساعدة عاجلة ومشروطة للملك عبدالله الثانى، اتبعتها الكويت بمساعدة مستقلة.
ولقد تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبارا عن لقاء عربى موسع بالرعاية الأردنية، ضم عددا من ممثلى دول عربية يفترض ألا علاقات لها مع العدو الإسرائيلى. والملفت أن العواصم المعنية بنفى هذه الأخبار قد تجاهلتها تماما، ما جعل الرأى العام العربى يعتبرها صحيحة.
ومفهوم أن فلسطين، كقضية مقدسة، وكحقوق شعب مطرود من أرضه، والتآمر جار ويكاد يبلغ ذروته، بينما لا يملك الفلسطينيون ــ لاسيما فى قطاع غزة ــ غير دمائهم والحجارة فى مواجهة مشروع «تمدد» الدولة الاسرائيلية، معززة بالقرار الأمريكى إلى القدس لإعلانها عاصمة لدولة إسرائيل، على أن تعطى بلدة «أبو ديس» لتكون عاصمة فلسطين التى تستوطن الأحلام وتكاد تضيع فى سلسلة المناقصات العربية المفتوحة.
والبعض ينتظر أن تتعاظم الخسارة، إذا ما غاب عن المسرح رئيس السلطة التى لا سلطة لها، فى الأرض المحتلة، وانفصلت غزة نهائيا عن الضفة التى سيكون مصيرها مجهولا وسط هذا الضياع العربى البلا حدود.