الأوقاف والوزارة
إبراهيم الهضيبى
آخر تحديث:
الجمعة 3 أغسطس 2012 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
ترشيحات وزارة الأوقاف، والتى كان من بينها ترشيح أحد أهم الرموز السياسية السلفية، أعادت فتح ملف الأوقاف ومقاصدها وكيفية إدارتها، وكذلك ملف الأزهر واستقلاله، بعدما ظلت هذه الملفات عصية على المناقشة الجادة طيلة عقود، فرض الاستبداد فيها نمطا معينا للعلاقة بين الدولة ومؤسسات المجتمع.
وقد كانت للأوقاف أهمية كبرى حتى منتصف القرن العشرين، فكانت ــ كما يشير الدكتور إبراهيم البيومى غانم فى كتابه «الأوقاف والسياسة فى مصر» ــ المصدر الرئيس لتمويل التعليم والثقافة والمكتبات العامة، وظهرت الوقفيات على المستشفيات وأسبلة مياه الشرب (لم تخل قرية من سبيل موقوف) والتكايا ودور الضيافة ومدافن الصدقة والملاجئ ودور إيواء العجزة، ووقفيات خاصة بإحياء الموالد والأعياد، وأخرى ذات طابع وطنى (كوقف سعد زغلول بيت الأمة)، فمثلت ركنا رئيسا فيما سماه الدكتور غانم «المجال المشترك» الداعم لقوة المجتمع والدولة جميعا.
كان نصيب الأزهر من الأوقاف كبيرا، تجاوز 190 وقفية عليه، وستين على معاهده، أغلبها خصص بدقة، كالوقف على علماء مذهب معين (أوقفت زينب ابنة محمد على عشرة آلاف فدان بالدقهلية على مرتبات وثمن خبز العلماء الأحناف بالأزهر)، أو فقراء الطلبة (كوقف فاطمة حسين ونفيسة عبدالغنى على فقراء دشنا من طلبة الأزهر) أو أحد الأروقة (كوقف عمر مكرم الذى جعل ثلث ريعه للسادة المجاورين برواق الصعايدة)، أو فئة معينة (الوقف ذاته خصص ثلثى ريعه للأشراف)، وغير ذلك، إضافة لما كان موقوفا على خدمة الأضرحة ومقامات الأولياء، بينما كان بعض الأوقاف عاما (كوقف يوسف أفندى صديق 23 فدانا على طلبة العلم بالأزهر).
وأضافة لأوقاف الأزهر، أنشئت وقفيات لتأسيس وخدمة معاهد دينية اشترط أن تكون على منهاجه، كوقفية على شعراوى (ثالث ثلاثة سافروا فى وفد 1918 مع سعد زغلول وعبدالعزيز فهمى) المكونة من أكثر من سبعة آلاف فدان بين المنيا وأسيوط، جعل خمس ريعها لبناء معهد دينى «على نموذج التعليم فى الجامع الأزهر»، ونص على أن تكون من موادها «العلوم الدينية وآلاتها»، والمنهاج الذى أوقفت عليه هذه الوفقيات هو ما كان عليه الأزهر وقتئذ، وهو منهاج أشعرى فى الاعتقاد، متمذهب فى الفقه، طرقى فى التصوف، يدرس متون المتقدمين بشروح المتأخرين وحواشيهم، وينقلها للطلبة بالأسانيد المتصلة.
وكانت نظارة هذه الأوقاف قسمة بين جهات مختلفة، بحسب شروط الواقفين، فشيخ الأزهر كان ــ بصفته هذه ــ ناظرا لعشر أوقافه، بينما أدارت وزارة الأوقاف 36% منها، وديوان الأوقاف الملكية 3%، فيما أدارت جهات مستقلة عينها الواقفون نصف أوقاف الأزهر.
ومع تطور الدولة الحديثة ورغبتها فى الهيمنة على المجتمع، بدأت محاولات للسيطرة على الأوقاف، استهلها محمد على بإنشاء ديوان عمومى الأوقاف، الذى ألغى بعدها بثلاث سنوات ثم عاد مرة أخرى مع وصول عباس الحكم، واستمر حتى تحول لنظارة سنة 1878، وعاد ديوانا سنة 1884، ثم صار وزارة سنة 1913، وكان دورها مقتصرا فى تلك المراحل جميعا على نظارة الوقف مباشرة وإشرافا، فلم تتدخل فى المصارف، ولم تتوسع فى مباشرة النظارة إلا حيث استطاعت إثبات عدم أهلية الناظر أو عدم اشتراطه فى حجة الوقف.
ثم ظهرت فى أوائل القرن العشرين مطالبات بإلغاء الوقف الأهلى (مع بقاء الخيرى)، أتبعها صدور القانون رقم 48 لسنة 1946، (أول قانون ينظم الوقف) والذى سمح بأن يرجع الواقفون عن الوقف، ثم قضى المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952 بمنع الأوقاف الأهلية والمختلطة وحل القائم منها، وبلغ تدخل الدولة ذروته فى السنوات الأولى لنظام يوليو، فقصر القانون 547 لسنة 1953 النظارة على الدولة والواقف، وسمح القانون 30 لسنة 1957 لوزير الأوقاف «أن يغير فى شروط إدارة الوقف الخيرى» وأن يصرف ريع الوقف «كله أو بعضه على الجهة التى يعينها هو دون تقيد بشرط الواقف»، فصارت المصارف تابعة لإرادة السلطة لا الواقف، الأمر الذى كان له أكبر الأثر فى تفكيك المؤسسة الوقفية كمؤسسة مُمَكِنة للمجتمع، وهو ما عبر عنه المستشار البشرى بأنه كان «تصفية لمؤسسات المجتمع التقليدية (ومن بينها مؤسسة الأوقاف) ليس لإحلال مؤسسات شعبية جديدة محلها ولكن لإحلال السيطرة المركزية للدولة الحديثة».
وهذه التطورات تمت بالمخالفة للقاعدة الشرعية المنظمة للأوقاف، والناصة على أن شرط الواقف كنص الشارع، وتمت ــ مع ذلك ــ فى ظل صمت علماء الأزهر، الذين ما لبثوا أن خضعوا هم أيضا للسلطان بعد فشلهم فى الحفاظ على أوقافهم، فصدر القانون 103 لسنة 1961 المعروف بقانون الأزهر، وصارت الدولة متحكمة فى الخطاب الدينى تعليما من خلال الأزهر، وانتشارا من خلال إعادة تنظيم وزارة الأوقاف، التى اتسع دورها بحكم القانون 64 لسنة 1962 ليشمل إجراء البحوث والدراسات الخاصة بنشر الدعوة، وتنسيق سياساتها مع باقى الوزارات، والقرار الوزارى 192 لسنة 1964 المتعلق بنشر الدعوة خارج مصر، وبمجمل هذه الإجراءات صارت وزارة الأوقاف سياسية لا خدمية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتدت الانتهاكات لتشمل نهب الأوقاف من قبل النخب الحاكمة المتعاقبة منذ ناصر وحتى مبارك، سواء كانت تلك الأوقاف عقارات وقصورا أدخلها هؤلاء فى ملكياتهم الشخصية، أو كانت أرضا تحولت لمشروعات استثمارية يمتلكها كبار القوم بعدما كانت موقوفة على فقرائهم.
وليس ثمة عذر لسكوت علماء الشرع عن الخرق المستمر للقاعدة الشرعية المنظمة للأوقاف منذ ثورة يوليو (سواء ما كان موقوفا على الأزهر أو غيره)، وعن تدخل الدولة المتزايد فى شئون المؤسسة العلمية الدينية، ومن ثم فإن حمية من سكت قبلا منهم اليوم دفاعا عن الأوقاف واستقلال المؤسسة تبدو مستغربة، غير أن هذا التخاذل السابق لا يغير من حقيقة أن وقفيات الأزهر موقوفة على منهاج معين، لا يجوز الاستمرار فى صرفها على نحو يخالفه، وهو منهاج أشعرى متمذهب متصوف، وهو ــ إضافة لما هو موقوف على الأضرحة ــ يدخل فى إطار ما يعتبره السلفيون ــ بخلاف الأزهر ــ بدعة أو شركا.
إن المطالبة بإعادة الأوقاف إلى مصارفها الشرعية ليست دعوة لبقاء الوضع على ما هو عليه، بل هى دعوة لتغيير، تستعاد به الأوقاف المغتصبة والمستولى عليها من قبل نخب ناصر والسادات ومبارك، ويعاد توجيهها لمصارفها، وتعاد فيه هيكلة وزارة الأوقاف ليقتصر دورها على النظارة حيث لا ناظر، وتوثيق الأوقاف الجديدة، ومراقبة أداء النظار وانضباطهم بشروط الوقف، وتستعيد به المؤسسات الموقوف عليها النظارة حيث تشترط الحجج ذلك، وتنتقل فيه مهمة الدعوة والتوجيه الدينى من وزارة الأوقاف التابعة للدولة للأزهر المستقل عنها، والمتحكم فى موارده، المنضبط بمنهاجه الذى أوقفت عليه تلك الأوقاف.