إذا أردنا أن نبدأ هذا المقال بخلاصته، فالقول هو لا هذه كانت الجنة الموعودة، ولا تلك كانت الفردوس المفقود.
أما إذا انتقلنا إلى الدرس الواجب استخلاصه من تلك المعادلة «الصفرية»، فإن إنقاذ مصر لن يتأتى بتكرار تعاطى الدواء القديم نفسه، بعد أن ثبت أنه لم يشف المريض لا فى العصر الملكى «الدستورى»، ولا فى العصر «الجمهورى»، بغض النظر عن تغيير الأطباء، أى بغض النظر عن تعاقب الملوك والرؤساء.
الحجة التى يجب أن تقطع بها جهيزة قول كل خطيب فى مسألة اعتبار العهد الملكى هو فردوس مصر المفقود، هى سقوطه السهل والسريع، تحت أقدام «الضباط الأحرار» صغار السن والرتب، وقليلى العدد نسبيا، فلا يوجد نظام فيه بقية من قدرة على الاستمرار فى الحياة يسقط بهذه السهولة، وتلك السرعة، ودون أية مقاومة، وكنا قد أشرنا فى مقالات سابقة هنا إلى أسباب تفسخ النظام الملكى، وتفرغ مكوناته للاحتراب فيما بينهما، وعجزه عن إنجاز الجلاء البريطانى، وتوطيد الديمقراطية، مع قدر ضئيل من العدالة الاجتماعية، ولو وفقا لنصيحتى تشرشل وروزفلت لفاروق الأول شخصيا فى لقائهما به عام 1944.
غير أننا اليوم نركز على غياب روح النظام الدستورى كلية عن تلك الحقبة، باعتبار أن ذلك الغياب هو أس البلاء الذى استشرى، حتى قضى عليها، فلا الملك سواء كان فؤادا أم فاروقا كانا مؤمنين بالحكم الدستورى، ولا ملتزمين به فى أية لحظة من وجودهما على العرش، وكذلك أحزاب الأقلية، بقيادة دعاة الليبرالية، وفلاسفتها من الأحرار الدستوريين قبل الحرب العالمية الثانية، وقيادة السعديين المنشقين على الوفد فى أثناء، وبعد هذه الحرب، أما معنى هذه الروح الدستورية، فهو استعداد المهزوم انتخابيا لقبول هزيمته، وعدم السعى لتولى السلطة بأساليب أخرى.
وليس لأحد أن يقول إن الاحتلال البريطانى كان السبب الرئيسى فى اضطراب الأوضاع الدستورية المصرية، لأن الاحتلال لم يتدخل ضد الدستور إلا مرتين، الأولى عندما وضع فيتو على رئاسة سعد زغلول للحكومة بعد حادثة اغتيال السردار، والثانية عندما فرض حكومة النحاس باشا على الملك فى حادث 4 فبراير 1942، وإن كان هذا التدخل الأخير جاء لصالح حزب الأغلبية صاحب الحق الدستورى «المنتهك» فى الحكم، رغم أنه كان بلا جدال اعتداء على استقلال البلاد المقرر فى معاهدة 1936.
أما كل الانقلابات الدستورية، وكل قرارات حل البرلمانات الوفدية، وإطاحة حكومات الأغلبية، وتزوير الانتخابات (عدا تلكما المرتان) فكانت بإرادة حرة منفردة من الجالس على العرش، باستعداد فطرى للتواطؤ من أحزاب وساسة الأقلية، بما فى ذلك المرة التى قبل فيها الوفد طواعية التخلى عن حقه فى الانفراد بالحكم، للدخول فى حكومة ائتلافية مع الأحرار الدستوريين، فما إن توفى سعد زغلول، حتى أوعز الملك لأولئك الدستوريين بالانسحاب من الائتلاف، ليتخذ منه ذريعة لإقالة الحكومة وحل البرلمان، ووقف العمل بالدستور عام 1928، اعتقادا من الأطراف المتواطئة أن رحيل سعد ستقضى على شعبية الوفد، وهو ما لم يحدث.
ولمزيد من التأكيد على كراهية الملك المتأصلة لحزب الأغلبية نذكر القراء بأن هذه التجربة الائتلافية الواعدة لم تعمر سوى ثمانية أشهر فقط لا غير.
أما المثل الذى نورده هنا على تأصل روح مناهضة الدستور لدى زعماء وساسة الأقلية، فهو من مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل الزعيم الثالث للأحرار الدستوريين نفسه، فقد ذهب إلى السفير البريطانى يطلب عدم ممانعته فى إقالة حكومة الوفد المنتخبة بعد معاهدة 1936، لأنها تمارس ما سماه هيكل ديكتاتورية الأغلبية، فكان رد السفير عليه، ولماذا لا تنتظرون حتى يعاقبها الناخبون على أخطائها فى الانتخابات التالية، ما دمتم قادرين على الاقناع بهذه الاخطاء ؟! أما إجابة الدكتور هيكل فكانت أن التطورات لن تنتظر، وأقيلت الحكومة بالفعل بعد ستة أشهر فقط من انتخابها، وحل البرلمان، وجىء بحكومة محمد محمود الثانية، وهو الرجل الذى نفذ الانقلاب االدستورى الأول 1928، وبالطبع هناك عشرات الأمثلة الأخرى، ولكن يبقى حديث الدكتور هيكل الأديب والمفكر مع السفير البريطانى أكثر دلالة من غيره على انعدام الروح الدستورية من الأصل عند الجماعات السياسية غير الوفدية فى مصر قبل عام 1952.
ويبقى من أفدح جنايات القصر الملكى على النظام والروح الدستوريين مبادرة الملك فاروق ورجاله إلى استخدام ضباط الجيش فى المكيدة السياسية لحزب الوفد، فبينما رفض النحاس باشا عرض الضباط بواسطة محمد نجيب عام 1936 مساندته أمام مؤامرات القصر، كان على ماهر رجل الملك ورئيس حكومته يشكل محورا مع الفريق عزيز المصرى رئيس الأركان للاتصال بالقائد الألمانى رومل فى الصحراء الغربية، ثم يقرر الملك فاروق نفسه – بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة – تشكيل الحرس الحديدى من ضباط جيش لتصفية خصومه السياسيين، أو للثأر لحادث 4 فبراير من زعماء الوفد، فاغتيل أمين عثمان، وجرت عدة محاولات لاغتيال النحاس نفسه، وكان أنور السادات أحد ضباط يوليو، وأحد رؤساء جمهورياتها من قيادات ذلك التشكيل الملكى، وكانت تلك هى البدايات الحقيقية لانخراط الجيش فى السياسة، وضياع هيبة الملك والزعماء، فى نظر الضباط، وصولا إلى يوم 23 يوليو 1952.
لعل الطرف الأول فى حرب يوليو السنوية، أى دعاة عودة الملكية «الدستورية» قد اقتنع الآن أنها لم تكن دستورية بالمرة، وأنها بالطريقة التى أدارت الحكم بها ليست هى الفردوس المفقود، ولا هى الآن الحل المنشود، وإنما هى ماض ولى بما له وما عليه، وأن براقش هى التى جنت على نفسها، أو كما تقول الحكمة الشعبية «قتيل يديه لا نبكى عليه».
لكن الطرف الثانى فى هذه الحرب، أى المنتصرين لجمهورية يوليو 1952، وامتداداتها، ليسوا فى نظرنا أقل خطأ فى تقويم ما فى ماضى جمهوريتهم، وفى تصور مستقليها من أولئك «الملكيين».
لن نتحدث هنا كثيرا عن تجريف السياسة، وإهدار القانون، والقمع والتعذيب، وتبديد الخبرات المتراكمة عبر الحقبة الملكية فى الادارة والصناعة والتعليم، والنهب المنظم فى حقبتى السادات ومبارك للثروة الوطنية، وخلود الرئيس على كرسيه حتى موته، أو إطاحته بطريقة غير دستورية، فكل ذلك ثابت بذاته، ومعروف للأحياء والأموات، وللذين سيولدون، وهى كلها خيانات جسيمة لروح النظام الجمهورى، ولكنى سأضرب مثلا واحدا من حقبة كل رئيس من رؤساء جمهورية يوليو يغنى وحده عن كل الامثلة الأخرى، ويكفى لإثبات غيبة روح الجمهورية عن حقبة يوليو بأكملها، حتى ساعة كتابة هذه السطور، أما المستقبل فالله أعلم به.
فى حقبة جمال عبدالناصر، تقدم محام عام 1964 إلى مجلس الأمة يطلب ترشيحه للاستفتاء عليه رئيسا للجمهورية أمام عبدالناصر،، أتدرون بماذا أجابه مجلس الأمة الذى كان يرأسه أنور السادات ؟
كانت الإجابة هى استصدار قرار من السلطات المختصة لوضع الرجل فى مستشفى الأمراض العقلية، لأن من يفكر فى منافسة جمال عبدالناصر هو بالقطع مجنون !!! فيا له من نظام جمهورى يفوق فى الإجماع على الإيمان برئيسه، الإيمان بالله ورسله، لأن الله جل فى علاه لم يصف الكفار به وبرسله بأنهم فاقدو الأهلية العقلية !!!
ومن حقبة السادات أتذكر مشهد افتتاح آخر مؤتمر عام برئاسته لحزبه «الوطنى الديمقراطى»، فقد جلس وحده على منصة ترتفع خمسة أمتار على الأقل عن مستوى منصة الخطباء، التى كانت بدورها ترتفع بمنسوب مترين على الأقل عن مستوى مقاعد المندوبين، وفى يده العصا كرمز لصولجان الملك، فى رمزية لا تخطئها العين، على وصوله لمرتبة أعلى من البشر، على طريقة أباطرة الصين فى العصور الوسطى.
بذلك انتقلنا من حالة الرئيس الملهم الذى لا يفكر فى منافسته إلا مجنون، إلى مرحلة الرئيس المتأله، الذى كان قد رد علنا على من نبهه إلى زيف تقارير وزير داخليته قائلا: «ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد».. حاشا لله.
أما ذكريات حقبة حسنى مبارك المتطاولة، فلا شك أنها لا تزال ماثلة فى أغلب الأذهان، وبالطبع فإن أبرز خيانات تلك الحقبة لروح النظام الجمهورى هى مشرروع توريث الحكم لابنه جمال، وهو المشروع الذى تسبب فى احتراب أركان الدولة العميقة، وأدى إلى تحول جمهورية يوليو إلى «أشلاء».
بل إن مبارك عندما اضطر لتعديل نظام اختيار الرئيس من الاستفتاء إلى الانتخاب – تمهيدا للتوريث – اختار بنفسه أحد منافسيه فى انتخابات عام 2005، بما أنه لم يستسغ أن يكون منافسه الوحيد شابا حديث السن من وجهة نظره.
عود على بدء.. فلا هذه كانت جمهورية حقا، ولا تلك كانت ملكية دستورية صدقا.. وعليه فإن تغيير الأطباء لن يشفى المريض.. ما داموا لا يعطونه إلا نفس الدواء، فالمطلوب إذن وصفة جديدة، وليس مجرد وجوه مختلفة، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.