مفتاح أزمة المياه فى إثيوبيا.. البرسيم
كريم ملاك
آخر تحديث:
الإثنين 3 أغسطس 2020 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
كثيرون يظنون أن التوغل الإسرائيلى فى إفريقيا فقط هو سبب تعنت إثيوبيا فى ملف سد النهضة، هؤلاء يزعمون أن إسرائيل تنقل لإثيوبيا تجربتها فى غصب آبار مياه فلسطين والسيطرة عليها عبر بنية تحتية متطورة تُعَطش الفلسطينيين وتروى المستوطنين. وربما هناك مراقبون أكثر يرون أن إثيوبيا تسعى لتنفيذ أجندة أمريكية قديمة للسيطرة على القارة السمراء كى تتحول لقوة متوسطة، عبر إتمام قفزة تنموية على غرار تجربة هيئة وادى تينيسى
Tennessee Valley Authority، تلك الهيئة المعنية بالسيطرة على فيضان نهر التينيسى وتوليد الكهرباء وتوفير قنوات رى للمزارعين المجاورين، الأمر الذى يشبه كثيرا حجم مبادرة سد النهضة التنموية والسدود الأخرى المطلة على النيل لتوفير قنوات رى لإثيوبيا بكاملها وتنميتها. إلا أن هناك لاعبا آخر متسترا لم يظهر، لحسن حظه، حتى الآن للعلن: السعودية.
ربما لا يعلم كثيرون، لكن السعودية تمتلك مزارع فى ولاية أريزونا، وولاية كاليفورنيا فى الولايات المتحدة. فمنذ عام ٢٠١١ نجحت السعودية فى الحصول على أراضٍ زراعية أخرى فى أوكرانيا، حيث قامت بإستئجار قرابة نصف مليون فدان. تمتلك السعودية أيضا أراضى زراعية فى الأرجنتين، حين قامت شركة المراعى السعودية بشراء مزرعة فول الصويا فى ٢٠١١ بقيمة ٨٣ مليون دولار ثم قامت السعودية بضخ ١٠ مليارات دولار فى ٢٠١٩ عبر صندوق الاستثمارات العامة السيادى فى صورة استثمارات زراعية. أما فى الولايات المتحدة فهى تمتلك عدة مزارع فصفصة فى كاليفورنيا، تقدر تلك الاستثمارات بنحو ٣٢ مليون دولار، حيث تتمتع بسعر مدعم للمتر المكعب من المياه عبر قناة رى من نهر كولارادو. يتراوح حجم وشكل هذه الشراكات بين عدة أطر ومسارات، بعضها رسمى ومملوك لصندوق الاستثمارات العامة السعودية وبعضها يندرج تحت لواء مبادرات «القطاع الخاص» السعودى بمعنى أنه مملوك لكيانات وأشخاص خاصة. ولى العهد محمد بن سلمان، أبرم مؤخرا اتفاق استثمار زراعى مع رئيس البرازيل بوليسارنو بنفسه. لا يمكننا أن نرى يد السعودية فى إثيوبيا دون التطرق لاحتياجاتها الغذائية والنمط الاستثمارى السعودى فى هذا القطاع حول العالم بالإضافة إلى كيف وصلت السعودية لإثيوبيا، فكلمة السر تكمن فى الفصفصة، أو البرسيم الحجازى.
●●●
ربما يتعجب القارئ المصرى من كل هذه الموارد المسخرة للحصول على رقعات زراعية حول العالم وضخ مليارات فى كل هذه المزارع، ويزداد الأمر حيرةً حين يعلم المرء أن المحاصيل والإنتاج المستهدف، من حيث النمط وحجم الإنفاق الذى يتخطى مليارات الدولارات، لا يخرج عن ثلاثة منتجات: العلف (أى الذرة وفول الصويا والفصفصة) والعجول، والدواجن. لكن هناك استثناءات قد تبدو للوهلة الأولى خارج هذا الإطار فى بلادٍ أخرى. فمثلا، نجحت شركة المراعى فى مصر فى الاستحواذ على عدة شركات زراعية كى تسيطر على حصة حاكمة فى سوق الألبان المصرية وسوق الأغذية بعد أن استحوذت شركة المراعى على شركة بيتى فى مصر فى عام ٢٠٠٩، أى بعد عام واحد من إطلاق مبادرة الملك عبدالله مبادرة الاستثمار الزراعى الخارجى لتأمين الأمن الغذائى السعودى، الأمر الذى يفسر أحد أهم توجيهات تلك المبادرة، طبقا لورقة مفاهيمية داخلية لوزارة التجارة السعودية تم الإفصاح عنها مؤخرا، أى أن القطاع الخاص السعودى هو الذى سيكون منوطا بتنفيذ هذه المبادرة، الأمر الذى يوضح لنا أن مثل هذه التحركات ليست خاضعة فقط لآلية السوق الحرة بل أهداف سيادية وجيوسياسية. لا سيما أن شركة المراعى حصلت على قرض من البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية فى عام ٢٠١٩ كى تتوسع فى استحواذها على شركات فى مصر والأردن ــ وهناك حديث آخر ومشابه لما تمر به مصر فى الأردن. بعد مبادرة الملك عبدالله بعامين فقط فى ٢٠١١ بادرت إحدى الشركات المملوكة للمراعى، شركة سافولا، بالاستحواذ على شركتين مصريتين، شركة الملكة وشركة الفراشة اللتان تعملان فى مجال الأغذية. كل هذه التحركات تشير لمحاولات السيطرة على مشتقات منتجات العجول، أى الألبان بصفة خاصة والأغذية بصفة عامة، وكل ما يمكن أن ينافس مزارع العجول السعودية التى تحتاج كميات هائلة من العلف، وخصيصا البرسيم الحجازى، أى الفصفصة، لكن ما علاقة البرسيم بإثيوبيا؟
●●●
يعلم أى مربى للعجول أن أهم أنواع العلف هى الفصفصة، لكن ولع السعودية بالفصفصة وتربية العجول يرجع لبدايات المملكة فى أوائل أربعينيات القرن العشرين حين قامت شركة أرامكو النفطية بدعم وتجهيز مزارع عجول صحراوية على غرار تلك التى نشأت فى أريزونا. أما محصول الفصفصة فهو ليس بدون مشاكل، تحتاج الفصفصة كميات أقل من المياه بالمقارنة لمحاصل أخرى لكنه ما زال يصعب على السعودية توفير زراعته على أراضيها، الأمر الذى دفعها بالتوجه لأفريقيا. مثلما قامت السعودية مؤخرا بالاستحواذ على مزارع فى مصر والأردن، ومثلما توجهت نحو البرازيل والأرجنتين للحصول على أراضٍ زراعية لزراعة الذرة وفول الصويا، قامت السعودية مؤخرا بالإعلان عن ضخ ١١ مليار دولار، أكرر ١١ مليار دولار، للاستثمار فى أراضٍ زراعية فى كندا والسودان وقامت أيضا بالتوازى بشراء أراضٍ زراعية فى إثيوبيا كى تؤمن مزارع عجولها عبر زراعة محصول العلف المفضل له: الفصفصة، إلى جانب محاصيل أخرى تحتاج كميات أكثر من المياه مثل الأرز. هذا الأمر فى حقيقته يدفعنا للقول إن السعودية لا تقوم فقط بالاستثمار الزراعى، بل بالاستثمار المائى. فكلما تقوم تلك الشركات والصناديق السيادية بالتوغل فى بلدٍ لزراعة محاصيل علف تستنفذ مصادر المياه العذبة، وتصدر هذه المحاصيل لتغذية عجولها، فهى تقوم بدورها أيضا بتصدير احتياطى مياه تلك البلاد فى صورة المحاصيل المزروعة. فليس هناك جدوى من الاستثمار الزراعى، من منطلق الأمن المائى، إذا كانت الشركة المستثمرة لن تبيع المحصول فى السوق المحلية، وهو ما دفع سكان ولايتى أريزونا وكاليفورنيا أن يشكوا من توسعات شركة المراعى فى ولايتهم.
أما فى إثيوبيا، فتقوم السعودية بالتحرك عبر شركة «سعودى ستار»، أو كما تعرف بالعربية شركة النجمة العربية السعودية المملوكة للمستثمر نصف السعودى نصف الإثيوبى محمد العمودى الذى تم القبض عليه قبل عامين فى الريتز كارلتون ،ثم تم الإفراج عنه فى ديسمبر ٢٠١٩ ليقيم فى بيته فى جدة بعد توسط رئيس وزراء إثيوبيا. ولكن تستمر شركة النجمة، إحدى أكبر الشركات من حيث حجم حيازة الأراضى الزراعية فى إثيوبيا، فى عملها فى إثيوبيا دون تجميد تلك الاستثمارات أو إيقاف عملية توريد منتجاتها للسعودية. يعود تاريخ تلك الشركة لتوسعاتها فى حيازة الأراضى تزامنا مع استثمار العمودى أكثر من ٢٠٠ مليون دولار فى شراء والاستحواذ على مزارع، إلى جانب حصول الشركة على ٤ مليارات دولار من صندوق الملك عبدالله للاستثمار الزراعى السعودى، مما تسبب فى اتهامها بتهجير عدة مزارعين فى إثيوبيا. تستحوذ السعودية مجملا على أكثر من ٣٠٠ ألف فدان فى إثيوبيا تتراوح حيازتهما بين عقود انتفاع لمدة ستين عاما وعقود ملكية ترجع لمزارعين مُهَجَرين طبقا لتقرير لجريدة الفاينانشال تايمز عنوانه «سباق الأراضى العظيم» The Great Land Rush. تعد شركة النجمة العربية من أهم الشركات عالميا حيث إنها تصدر ألبانها لستاربكس، مما يعقد البعد السياسى التجارى لمثل هذه الاستثمارات فى إثيوبيا ويدلنا نحو مصالح اقتصادية أمريكية.
إذا يمكن الجزم أن ما تفعله السعودية، ويمكن ايضا اضافة الكويت والإمارات وقطر أيضا، عبر توسعاتهم الزراعية عبارة عن عملية للاستحواذ على مياه تلك البلاد الذين يستثمرون فيها ثم يقومون بتصدير محاصيلها. ولكن الأمر لا يقف عند الاستثمار الزراعى والسيطرة على مصادر المياه العذبة بل يمتد للسيطرة على البنية التحتية لإثيوبيا، فالإمارات تارة تمد إثيوبيا بثلاثة مليارات دولار من الدعم وتارة تأخذهم منها عبر حصولها علي حق إقامة خط بترول من إريتريا لإثيوبيا وفى صورة مشاريع استثمار عقارية. أما قطر فهى تقوم بالاستثمار فى البنية التحتية وفى مجال الزراعة فى إثيوبيا أيضا، تمهيدا لجنى أرباح تلك الاستثمارات بعد عمل سد النهضة. يمكننا أيضا أن نتنبأ بنتائج سد النهضة عبر تتبع تدفقات الموارد السعودية للسودان التى مولت مشروع بناء سد الكجبار وما تبعه من تهجير لبناء قنوات رى لخدمة مزارع السعودية فى عام ٢٠١٦، وليس خدمة سكان الأراضى الذين تم تهجيرهم.
فإذا كانت مصر جادة فى التصدى لسكون وتصلب إثيوبيا فى التفاوض، عليها أن تبدأ بمنع التوسعات الخليجية فى الرقعة الزراعية المصرية وإقناع إثيوبيا أن كل هذه الشركات الزراعية الكبرى لن تساهم فى نقلة نوعية اقتصادية للبلاد، بل ستسلب مواردها لتغذية مواشيها فى السعودية لشعب ثرى يفضل سلب مياه جيرانه كى يتمتع بمنتجات غذائية غير أساسية، مثل العلف، بدلا من زراعة محاصيل أخرى للاستهلاك المباشر لتحقيق أمن غذائى عالمى على عكس ما أرساه الكاوبوى الأمريكى الذى بادر بإنشاء أولى مزارع العجول فى السعودية فى الأربعينيات. وإذا أرادت إثيوبيا بينة، ما عليها إلا أن تنظر إلى مزارع المراعى فى كاليفورنيا وأريزونا لترى سوء استغلال المياه وبيعها بتعريفة مدعمة فى حين يدفع سكان هذه الولايات أضعاف تلك التعريفة ليرووا عطشهم.