حتى لا نفقد ثقتنا في أنفسنا
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 3 أكتوبر 2009 - 9:32 ص
بتوقيت القاهرة
لم تكن ملحمة أكتوبر1973مجرد نصر عسكرى، إنما كانت قبل أى شىء بمثابة ميلاد جديد لكل مصرى ولكل عربى، وبعث آخر للروح التى كادت أن تفارقنا بعد هزيمة1967. سار كل فرد منا رافع الرأس ثابت الخطى وكأنه اكتسب قلبا جديدا سليما، وإرادة قادرة على تخطى كل الصعاب، وتصميما على ألا عودة مرة أخرى إلى الماضى بأخطائه وآلامه وإحباطاته.
ليست هذه مقدمة إنشائية، بل مقدمة وجدتها ضرورية بعد أن بدأ اليأس فى التسرب إلى النفوس مرة أخرى وكادت تهجرنا الثقة بالنفس أمام مشكلات هى فى الواقع أقل شأنا وأحط قدرا مما كان يواجهنا فى عام 1973. بل وانعكس ذلك على تقييم البعض منا للملحمة ذاتها، حيث يرى هؤلاء أن ما حدث كان مجرد حرب تحريك لا تحرير، وينفى عن انتصار أكتوبر المجيد مسئوليته عن استرداد سيادتنا كاملة على أرض سيناء بمقتضى معاهدة 1979، بل ويرى أن المعاهدة قد أخرجت مصر من الصراع وأن إسرائيل قد باتت هى الدولة المركزية الحقيقية فى المنطقة.
آلمنى أنه بعد مرور كل هذه الأعوام على حرب أكتوبر المجيدة مازال البعض يردد أنها كانت حرب تحريك لا حرب تحرير. لا أعلم إذا كان فى الإمكان إطلاق مثل هذا الوصف على حرب ساهمت وشاركت فيها الدول العربية جميعها، كل وفق إمكانياته وقدراته. قامت الدول العربية المنتجة للبترول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية بقطع إمدادات البترول عن الولايات المتحدة واستمر هذا الحظر عدة أشهر بعد انتهاء الحرب لضمان التوصل إلى اتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل أسوة بما تم الاتفاق عليه بين مصر وإسرائيل. وقامت دول عربية أخرى بتقديم الدعم المادى وأخرى بتمويل صفقات السلاح وحركت أخرى قواتها لدعم الجبهة السورية ودفعت أخرى بوحدات لتأمين الأردن.
هذا جزء مما قدمته الدول العربية للمعركة. والآن ماذا قدمته أمريكا إلى حليفتها إسرائيل؟ أترك الكلام هنا إلى وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر كما ورد فى كتابه «الأزمة» Crisis عن يوميات هذه الحرب. اعترف الإسرائيليون للأمريكان يوم 7 أكتوبر بجسامة خسائرهم وطلبوا النجدة على وجه السرعة.
تدفقت الأسلحة الأمريكية من طائرات ودبابات وصواريخ على إسرائيل، إما بالطائرات العسكرية الأمريكية الضخمة أو بطائرات مدنية مستأجرة أو بالطائرات الإسرائيلية أو عن طريق البحر. ومع كل هذا يقول كيسنجر لوزير الدفاع الأمريكى يوم 12/10: إن الإسرائيليين لم يحققوا إلا فشلا بعد فشل فى صد الهجوم المصرى.
ويعود كيسنجر ليطمئن الرئيس الأمريكى نيكسون يوم 14/10بأن الطائرات المحملة بالسلاح والعتاد تصل إسرائيل بمعدل طائرة كل15دقيقة. أضف إلى كل هذا أن الولايات المتحدة قامت يوم24/10 برفع حالة الاستعداد فى جميع قيادتها العسكرية على مستوى العالم إلى أعلى الدرجات بناء على معلومات وصلتها تفيد بأن ثمانى طائرات سوفيتية من طراز أنتينوف22كانت على أهبة الاستعداد للتوجه إلى مصر خلال ساعات حاملة فرقا حربية محمولة جوا. وكادت أن تقع المواجهة بين الدولتين الأعظم. وهنا أترك للقارئ أن يختار الوصف الذى يروقه لحرب73.
ولعل من المفيد أيضا فى هذا الصدد الإشارة إلى مقابلة أجراها مؤخرا وزير الخارجية الإسرائيلى مع القناة التاسعة للتليفزيون الإسرائيلى يعترف فيها بأنه لا بديل عن علاقات إسرائيل بأمريكا...إنه اعتراف تأخر قرنا من الزمان. ولعل ما ذكرته آنفا عما كتبه وزير الخارجية الأمريكية نفسه ما يمكن أن يرد به أيضا على القول بأن إسرائيل قد باتت دولة المركز فى المنطقة. إسرائيل لن تصبح دولة المركز فى المنطقة، فهى لا تملك المقومات اللازمة لذلك كما أظهرته معركة أكتوبر المجيدة.
وستظل الآمال الإسرائيلية معقودة على أن ترفع عنها هذه المنطقة العربية ــ بكل ما حباها الله بها من إمكانيات وقدرات ــ مقتها وغضبها عنها وتتقبلها ككيان شرعى بين جنباتها.
وماذا عن سيناء التى تم استردادها بعد معركة عسكرية طاحنة ومعركة سياسية لا تقل ضراوة عن الأولى، حتى أمكن استئناف السيادة عليها حتى آخر حبة من رمال طابا.
سيناء شمالها وجنوبها تشهد طفرة اقتصادية غير مسبوقة فى مختلف مجالات التنمية الزراعية والصناعية والعمرانية والسياحية. واستأنفت مصر ممارسة سيادتها الكاملة على أرض سيناء ورحل عنها آخر جندى إسرائيلى وآخر مستوطن استحل أرضها وثرواتها إلى حين. أرست مصر بذلك سابقة لابد أن يتمسك بها المفاوضون على الجبهات الأخرى. أما ترتيبات الأمن التى جاءت بالمعاهدة قد قامت على أساس مبدأ التبادل على الجانبين وهى قابلة لإعادة النظر بناء على طلب أى من الطرفين. ولنلق الآن نظرة على حجم قواتنا المسلحة الموجودة فى المنطقة(أ)على امتداد الجانب الشرقى لقناة السويس والساحل الشرقى لخليج السويس.
تنص المعاهدة على أن توجد فى هذه المنطقة فرقة مشاة مصرية ميكانيكية بمنشآتها العسكرية وتحصيناتها الميدانية. وتتكون هذه الفرقة من ثلاثة ألوية مشاة ميكانيكية ولواء مدرع وسبع كتائب مدفعية ميدانية وسبع كتائب مدفعية مضادة للطائرات و230 دبابة و480 مركبة مدرعة من كل الأنواع وذلك بإجمالى22ألف ضابط وجندى. لم تحتفظ مصر فى أى وقت من أوقات السلم بمثل هذه القوات سواء من ناحية العدد أو العتاد. أما القوات متعددة الجنسيات الموجودة فى مراكز محددة فوظيفتها الوحيدة التأكد من التزام الطرفين بترتيبات الأمن المقررة فى المعاهدة واحترامها.
أما مقولة خروج مصر من الصراع، فيكفينا اعتزازا ما صدر عن مؤتمر القمة العربى الذى عقد فى الدار البيضاء عام1989بعد فترة بغيضة قطعت فيها معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع مصر وعلقت عضويتها بالجامعة العربية. فقد تصدر البيان الختامى للمؤتمر ما نصه «رحب المؤتمر فى جلسته الافتتاحية بوفد جمهورية مصر العربية برئاسة فخامة الرئيس محمد حسنى مبارك رئيس جمهورية مصر العربية،واستئناف مصر لعضويتها الكاملة فى جامعة الدول العربية، وفى جميع المنظمات والمؤسسات والمجالس التابعة لها. وعبر عن اقتناعه بأن وجود جمهورية مصر العربية فى مكانها الطبيعى بين شقيقاتها العربيات سيساهم فى تعزيز العمل العربى المشترك ودعم مسيرة التضامن ووحدة الصف العربى لما فيه خير الأمة العربية وعزتها وازدهارها».
لم يمض أكثر من عام على ذلك، حتى كانت قواتنا المسلحة تخوض مع غيرها معركة تحرير دولة الكويت الشقيقة بعد أن ارتكب صدام حسين جريمة احتلالها منتهكا بذلك معاهدة الدفاع المشترك العربية وميثاق الأمم المتحدة. أودّ أيضا التأكيد على أن معاهدة السلام لم تنتقص من حقنا فى الدفاع الشرعى الفردى والجماعى المنصوص عليه فى ميثاق الأمم المتحدة. وتضمنت المادة السادسة من المعاهدة نصا صريحا بأنه «لا تمس هذه المعاهدة ولا يجوز تفسيرها على أى نحو يمس حقوق والتزامات الطرفين وفقا لميثاق الأمم المتحدة». وكما ذكرت وتأكيدا لما سبق، فقد شاركت مصر فى حرب تحرير الكويت استنادا إلى معاهدة الدفاع العربى المشترك هذه وحق الدفاع الشرعى الفردى والجماعى المقرر بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، وذلك وفقا لنص قرار مؤتمر القمة العربى المنعقد بالقاهرة يومى 9 و10 أغسطس1990.
ولا أحسب أننى فى حاجة إلى تعديد ما قدمته مصر من تضحيات وما بذلته من جهود فى سبيل الدفاع عن مختلف القضايا العربية سواء قبل معاهدة السلام أو بعدها. ولا تملك مصر أو غيرها ترف التخلى عن الصراع طالما استمر إهدار للحقوق أو تهديد للمصالح أو مساس بالأمن.