حالة مصر دروس الموضوعية من الصحافة الرسمية
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الأحد 3 أكتوبر 2010 - 10:39 ص
بتوقيت القاهرة
بين الحين والآخر، يطالعنا بعض كتاب الصحف الرسمية فى مصر بشروح لسياسات نظام الحكم ويصيغون عرائض دفاع عن خياراته لا أملك عادة إزاءها إلا أن أتعجب صامتا من قدرة هؤلاء على تجاهل الحقائق وعلى مقاربة أوضاع مصر بتحايلية هدفها الوحيد هو تجميل صورة النظام وإلهاء الرأى العام عن إخفاقاته. بيد أن مبالغة بعض «هؤلاء» فى الآونة الأخيرة فى ادعاء التزام شرطى الموضوعية والواقعية، استنادا إلى توظيف مجتزأ للبيانات المتاحة عن الأوضاع المصرية وللصياغات الإنشائية المعتادة عن التقدم التدريجى والإصلاح التدريجى وأولوية الاستقرار، وكذلك رميهم لمنتقدى سياسات وخيارات النظام تارة بعدم المعرفة وتارة بالثورية الحالمة فى مسعى لتسفيه مقولاتهم ونزع صدقيتها يدفعانى اليوم إلى التخلى عن اعتيادية التعجب الصامت والاعتراض بصوت مسموع على ما يسميان موضوعية وواقعية الصحافة الرسمية.
وكما تعلمون أعزائى القراء كنت قد شرعت منذ عدة أسابيع على صفحات الشروق، ونحن على أبواب انتخابات برلمانية مهمة ولم يعد يفصلنا عن انتخابات رئاسية أهم سوى أقل من عام، فى رصد «حالة مصر» الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحليل مسارات تطورها المحتملة. هدفت من ذلك، ومازلت، إلى الإسهام مع الكثيرين غيرى من الكتاب المستقلين المهمومين بالشأن العام فى تكثيف النقاش حول سياسات وخيارات النظام ومحاسبته على حصادها بحلوه ومره خلال الأعوام الماضية، وبالتبعية مقاومة النزوع البادى اليوم فى مصر نحو شخصنة السياسة واختزالها إلى مجموعة من ثنائيات المع والضد السطحية مثل مع الرئيس مبارك أو ضده، مع جمال مبارك أو ضده، مع البرادعى أو ضده، مع المعارضة أو ضدها، وغيرها.
إلا أن مسعاى هذا، وبعد أربعة مقالات فقط جئت بها على تحليل بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ووضعية المرافق الأساسية كالتعليم والصحة وأزمة الفقر وحالة الطبقة الوسطى والفجوة المتنامية بينها وبين الشرائح الغنية واجتهدت لتدعيم تحليلى ببيانات ومعلومات موثقة، يبدو أنه لم يرق لبعض كتاب الصحف الرسمية إما لتضمنه ملاحظات نقدية على حصاد سياسات نظام الحكم لم تتوقف عند العام من الحديث بل فصلت ولم تتماه مع طروحات المعارضة بل اختلفت معها أيضا، أو لكون هؤلاء الكتاب اعتادوا فى الآونة الأخيرة على احتكار حديث البيانات والمعلومات وتطويعه لخدمة هدف تجميل النظام ومن ثم لا يشعرون بكثير من الارتياح إزاء إقبال عدد من الكتاب المستقلين - فلست وحدى هنا - على منازعتهم الحديث بالبيانات وتقديم رؤية مغايرة للأوضاع المصرية. أيا ما كان عليه الأمر، ألفيت تحليلى فى مقالات «حالة مصر» موضع نقد من قبل هؤلاء راعنى به هشاشته المتناهية على الرغم من ادعائه الموضوعية والواقعية.
فمن جهة أولى، وعلى الرغم من دفع بعضهم بعدم دقة البيانات التى وظفتها لتحليل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ووضعية الطبقة الوسطى، إلا أنهم لم يأتوا على تقديم بيانات أو معلومات تدحض معدلات النمو والفقر والبطالة والدين العام والفجوة عبر الشرائح المجتمعية فى نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى التى سقتها معتمدا على خليط من المصادر الدولية والمصرية (الحكومية قبل غير الحكومية). وقصارى ما جاءوا به فى هذا الصدد، اتساقا مع نهجهم فى التوظيف المجتزأ، هو مجموعة من الإحالات غير المنظمة لبيانات ومعلومات مقتطعة من سياقها الاقتصادى والاجتماعى بغرض التحايل على الواقع المأزوم، وكأن الحد من معدلات الفقر والبطالة سيأتى من خلال إقبال «أربعة ملايين شاب مصرى» على الاستثمار الخاص دون تحديد لهوية هؤلاء الشباب المجتمعية (الطبقية) ولنوعية مشروعاتهم الاستثمارية، أو كأن بشائر تقليص الفجوة بين أغنياء وفقراء المصريين ترتبط بارتفاع عدد المواطنين المشتركين فى خدمات الهاتف المحمول.
من جهة ثانية، ادعى البعض وجود علاقة ارتباطية مباشرة بين تعاملى النقدى مع حصاد سياسات وخيارات نظام الحكم وتوقعى حدوث ثورة وشيكة فى مصر أو انفجار مجتمعى قريب. والحقيقة أننى توقفت طويلا أمام هذا الادعاء محاولا إدراك مغزاه، فلم أنطلق أبدا فى تناولى لحالة مصر من احتمالية الثورة الوشيكة وكتبت أكثر من مرة أن نظام الحكم وعلى الرغم من إخفاقاته يبقى قابضا على زمام الأمور فى المجتمع والسياسة وتظل سلطته بعيدة عن المنازعة الفعلية لتفتت المعارضة وضعف أدواتها. وفضلا عن رغبة هؤلاء الكتاب فى إعادة إنتاج الصياغات الإنشائية التى اعتدنا عليها فى الخطاب الرسمى من قبيل حتمية الإصلاح التدرجى والاستدعاء المستمر لفكرة «الدولة المصرية الراسخة» التى أبدا لم تتغير جذريا ولرمزية التشابه بين رسوخها واستمرارها وبين السريان البطىء والمنتظم لنهر النيل على مدار الأزمنة والعصور، قناعتى أن المراد من المزاوجة الباطلة بين نقد لنظام الحكم وتوقع لثورة وشيكة هو نزع الصدقية عن مجرد نقد النظام بوضعه (أى هذا النقد) فى مصاف المحرمات باعتباره صنو دعوة كارثية ومخيفة لثورة لا يريدها أحد، ومن ثم وأد النقاش الموضوعى حول حصاد سياسات وخيارات النظام فى مهده.
من جهة ثالثة، سفه بعض كتاب الصحف الرسمية دعوة المعارضة لمقاطعة الانتخابات البرلمانية القادمة واعتبروها بمثابة حكم مسبق على المعارضة بالهامشية وحرمان لها من أدوات الفعل السياسى والتغيير المتاحة من خلال المشاركة فى الانتخابات وفى العمل البرلمانى. وكنت فى مقالات سابقة قد دعوت لمقاطعة الانتخابات لعدم توافر ضمانات كافية لنزاهة وشفافية العملية الانتخابية ولتعنت الحزب الوطنى الحاكم فى هذا الصدد ولضعف حصيلة العمل البرلمانى للمعارضة فى ظل الهيمنة المستمرة للحزب الحاكم ورغبة فى الامتناع عن تقديم شرعية ديمقراطية زائفة لنظام الحكم مازال على سلطويته منذ عقود. ومع تسليمى الكامل بحق هؤلاء الكتاب فى تبنى الدعوة للمشاركة فى الانتخابات والدفاع عنها، فجدل المشاركة المقاطعة فى بلد مثل مصر معقد ولكل طرف مقولات معتبرة تستحق التدبر بها، إلا أن التوجه نحو تسفيه الدعوة للمقاطعة ارتبط بصياغة «وصف» شديد المثالية للحياة السياسية المصرية وكأننا أمام ديمقراطية ويستمنستر على ضفاف النيل. فغياب ضمانات النزاهة والشفافية اختصر إلى حوار جار حول قواعد وإجراءات عمل اللجان المشرفة على الانتخابات، القول بأن الحزب الحاكم أبدا لم يمتنع عن استخدام أدوات الدولة (الأمنية) للتلاعب بالعملية الانتخابية ونتائجها أصبح اليوم أمرا منسيا بعد بلوغ عدد أعضاء الحزب الوطنى «ثلاثة ملايين نسمة» ومن ثم انتفاء احتياجه للتلاعب مع مثل هذه الشعبية الجارفة، والاعتراض على الإطار القانونى المقيد لعمل المعارضة والتضييق الأمنى المستمر على أحزابها وحركاتها لا يعدو أن يكون حجة البليد غير القادر على المنافسة وخطاب اعتذارى من معارضة تخفق فى استغلال المساحات الواسعة المتاحة للحركة السياسية وفى توظيف الحرية الإعلامية غير المسبوقة، ونقد التعديلات الدستورية التى ألغت شرط الإشراف القضائى على الانتخابات يمثل هرطقة خطيرة لا تحترم قدسية النص الدستورى، الكتاب علما بأن الكتاب هذا عدل الحزب الوطنى 36 من مواده دفعة واحدة فى 2007.
من جهة رابعة، وأغلب الظن نظرا لمعرفتهم بمحدودية القدرة الإقناعية للمقولات التحايلية السالفة الذكر، حاول البعض نزع مطلق الموضوعية والصدقية عن تحليلى بلصق صفة «المستورد» به من بوابة مؤسسة كارنيجى ثم فى خطوة تالية تصوير تحليلى على أنه موقف عام للمؤسسة التى «أوقعها» باحثها المصرى فى «فخ» تأييد المعارضة والترويج لخطابها غير الواقعى. وفى مثل هذا الطرح دليل بؤس عظيم، فتحليلى «المستورد» يتفق معه وسبق إليه العديد من الكتاب والمفكرين المقيمين داخل مصر، والأرجح أن الخط الفاصل هنا هو بين الكاتب المستقل وكاتب السلطة. ومؤسسة كارنيجى لا موقف لها من قضايا السياسة والاقتصاد التى يهتم بها الباحثون ويطورون تحليلاتهم حولها بحرية كاملة، والأرجح هنا أيضا أن هؤلاء الكتاب خلطوا بين ثقافة مؤسساتهم الصحفية الرسمية ذات الموقف الواحد والواضح وبين ثقافة مؤسسة بحثية يبتغى من يعمل بها الموضوعية والحياد. أما القول بوقوعى ومعى كارنيجى فى فخ المعارضة فيعفى هؤلاء من عبء التعاطى الجاد مع تحليل نقدى أردته موضوعيا وموثقا، ويفصح عن قناعتهم باحتكار الحقيقة المطلقة، فهم فقط المعنيون بالتمييز بين الجد والهذر وبفصل الحقيقة عن الشراك المنصوبة حولها. ومع أن مثل هذه القناعة توائم تماما منطق الدولة السلطوية وبنية الخطاب الرسمى المدافع عنها، إلا أننى كنت أربأ بمن رفع طويلا شعارات الليبرالية بأن يقع فى فخها.
تصحيح واعتذار:
ورد فى المقال الماضى أن معدل الوفيات بين الأطفال الرضع فى عام 2000 هو 37.5% انخفض فى عام 2008 إلى 18%. والصحيح هو أن معدل الوفيات فى عام 2000 هو 37.5 بين كل 1000 طفل انخفض فى عام 2008 إلى 18 حالة بين كل 1000 طفل.