الجيش والسلطة المدنية المنتخبة
سامر سليمان
آخر تحديث:
الإثنين 3 أكتوبر 2011 - 9:35 ص
بتوقيت القاهرة
واضح أن القوى السياسية باتت تشعر بقلق متزايد بخصوص تاريخ تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة لسياسيين مدنيين منتخبين من الشعب. بل أن الغموض الذى يحيط بهذا الموضوع يدفع البعض إلى التشكيك فى جدية المجلس من الأساس فى تسليم السلطة. لقد أعلن الجيش فى بيانه الخامس عن مرحلة انتقالية مدتها ستة أشهر.قد انقضت هذه المدة دون نهاية المرحلة الانتقالية، بل دون وضوح مداها الزمنى. كاتب هذه السطور لا يميل إلى التشكيك فى رغبة المجلس العسكرى فى تسليم السلطة للمدنيين. فالاتجاه التاريخى الذى ساد فى مصر منذ هزيمة 1967 وما أعقبها من عزل للمشير عبدالحكيم عامر كان الابتعاد النسبى للجيش عن السياسة وتركيزه فى مهمات الدفاع. وقد كان ذلك أحد العوامل المهمة التى أدت إلى الارتفاع بالقدرات القتالية للجيش وإلى الانجاز المهم الذى تحقق فى حرب أكتوبر 1973. هذا الانسحاب الجزئى للجيش من السياسة لا يعنى بالطبع أننا وصلنا إلى الوضع الطبيعى والصحى فى العلاقات المدنية العسكرية. بل إن ثورة يناير 2011 وما أعقبها من حالة الفراغ فى السلطة قد أعادت الجيش بقوة إلى صدارة المشهد السياسى. لكنى أظن أن هذه مرحلة مؤقتة ستمضى وستعود مصر إلى المسار التاريخى الذى بدأته بعد هزيمة 1967، فيتضاءل انخراط المؤسسة العسكرية فى السياسة. هذه القناعة تقوم على افتراضين: الأول هو أن مصلحة المؤسسة العسكرية تكمن فى الابتعاد نسبيا عن السياسة. الأوضاع فى مصر صعبة جدا والمطالب الاجتماعية والاقتصادية جارفة. فى هذا السياق من الطبيعى أن يفضل الجيش أن يترك سياسيين مدنيين فى صدارة المشهد. الافتراض الثانى هو أنه من الصعب تكرار ما حدث فى عام 1954 حين حنث مجلس قيادة الثورة بوعوده للشعب وألقى بالدستور الذى أعدته نخبة من خيرة علماء ومفكرى وسياسيى مصر فى صندوق القمامة. فاللحظة التاريخية اليوم مختلفة تماما عن الخمسينيات. حكم العسكر فى تلك المرحلة كان «الموضة» فى العالم الثالث. لكن الوضع اليوم مختلف تماما. فحكم العسكر بالشكل المباشر أصبح «موضة» قديمة لا تجرؤ عليه إلا «جمهوريات الموز» فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا. إن تعطيل الانتقال إلى الحكم المدنى لن يعنى إلا العصف بوضع مصر الإقليمى وفقدان مصداقيتها الدولية وخراب اقتصادها. وهو أمر لا يمكن تصور أن يقوم به المجلس العسكرى أو أن يقبله شعب حرر نفسه من الخوف وقام بثورة عظيمة. اننا فى مصر ورائنا تجربة مريرة من انخراط الجيش فى السياسة الأمر الذى يعطينا حصانة ضد تكرار ذلك.
هذا يعنى أن تسليم السلطة للمدنيين هو أمر مرجح ما لم تحدث مصائب تعطل ذلك، مثل نشوب انقسام حاد بين القوى السياسية يهدد بوقوع البلاد فى صراع أهلى أو الفوز الساحق الماحق فى الانتخابات لإحدى القوى السياسية المشكوك فى التزامها بالأسس الديمقراطية. بهذا المعنى، القوى السياسية عليها مسئولية كبيرة فى الاحتفاظ بحد أدنى من التوافق الوطنى يحمى مصر من الانقسام الحاد الذى قد يدفع البعض إلى مطالبة الجيش بالبقاء فى السلطة. كما على القوى السياسية مسئولية منازلة وهزيمة «الفلول» وغيرهم ممن يريدون توريط القوات المسلحة فيما لا ناقة لها فيها ولا جمل باقتراحات غريبة من نوع أن تنزل القوات المسلحة بمرشح رئاسى أو أن تؤيد أحد المرشحين. الأصل أن تلتزم المؤسسة العسكرية الحياد تجاه المنافسة السياسية وأن تقف على مسافة واحدة من كل القوى كما أعلن ذلك المجلس العسكرى.
●●●
الحقيقة أن الخطر الأساسى الذى يتهدد البلاد لا يكمن فى عدم تسليم السلطة لحكومة مدنية بقدر ما يكمن فى التأخر الشديد فى تسليم السلطة أو تسلميها منقوصة (وهذه قضية تستحق مقالة أخرى). لكى يعود الجيش إلى ثكناته يجب أن يكون لدينا على الأقل دستور، وبرلمان، ورئيس منتخب. وفى ضوء التوقيتات التى أقرها المجلس العسكرى أخيرا لن يكون بمقدورنا انتخاب رئيس للجمهورية قبل نهاية عام 2012. أى أنه باقى من الزمن أكثر من سنة على نهاية المرحلة الانتقالية، وهو الأمر شديد الوطأة على الاقتصاد وعلى حياة الناس، لأنه لن يتحقق استقرار اقتصادى ولا إقبال محلى وأجنبى على الاستثمار بدون اكتمال تشكيل مؤسسات الدولة ووضوح الرؤية فيما يخص مستقبل مصر السياسى. إن المرحلة الصعبة التى نعايشها الآن تدل على عجز السلطة الانتقالية فى تحقيق أى تقدم ملموس فى إصلاح الأوضاع الأمنية والاقتصادية الأمر الذى يجب أن يشحذ الهمم لمحاولة انجاز المرحلة الانتقالية فى أقرب فرصة ممكنة من أجل وضع سياسيين منتخبين من الشعب فى مواقع المسئولية.
إن القلق الشديد من طول المرحلة الانتقالية هو ما دفع بعض مرشحى الرئاسة للتحرك لكى يطالبوا المجلس العسكرى بإجراء انتخابات رئيس الجمهورية فى موعد أقصاه مارس أو أبريل القادم دون انتظار نهاية عملية كتابة الدستور. وقد ترددت أنباء عن قيام الحكومة الحالية بتقديم مقترح للمجلس العسكرى فى هذا الاتجاه. المشكلة هنا أن الرئيس الجديد سيتولى الحكم فى ظل غياب دستور، أى فى غياب إطار قانونى يوضح سلطاته وصلاحياته وعلاقته ببقية سلطات الدولة. هذا هو بالمناسبة التحفظ الذى قدمه الدكتور البرادعى على مبادرة مرشحى الرئاسة للتعجيل بالانتخابات الرئاسية. البعض يرد بأن الدستور المؤقت أو الإعلان الدستورى يحدد صلاحيات الرئيس. لكن ماذا لو بدأ الرئيس فى ممارسة الصلاحيات المنصوص عليها فى الدستور المؤقت وأتى الدستور الجديد لكى يعدل من هذه الصلاحيات؟ والسؤال الأهم هنا هو هل يحتوى الإعلان الدستورى على تحديد واضح لصلاحيات البرلمان ورئيس الجمهورية ومجلس الوزراء؟ لنأخذ مثال على ذلك من إعداد الموازنة والموافقة عليها. من البديهى فى أى نظام ديمقراطى أو شبه ديمقراطى أن البرلمان يناقش الميزانية ويوافق عليها أو يرفضها أو يعدلها. السؤال هو من الذى سيعد الميزانية لكى تُعرض على مجلس الشعب؟ المادة 57 من الإعلان الدستورى تعطى هذه المهمة لمجلس الوزراء. بينما المادة 33 تقول إن مجلس الشعب هو من يقرر الموازنة العامة للدولة. فهل المقصود هنا أنه يقر الميزانية أى يوافق عليها أو يرفضها ولكن لا يعدها. لماذا استخدم الإعلان الدستورى كلمة يقرر بدلا من يقر؟ سؤال آخر: ما هو دور الرئيس فى إعداد الموازنة؟ الرئيس طبقا للمادة 56 من الإعلان الدستورى هو من يعين الوزارة، وبالتالى الموازنة لا تخرج من مجلس الوزراء إلى مجلس الشعب إلا بموافقته. ماذا لو رفض مجلس الشعب ميزانية الرئيس والحكومة؟ ما هو الحل؟ هنا الإعلان الدستورى لا يقدم ردا.
●●●
السؤال المطروح الآن. هل نؤجل انتخاب رئيس الجمهورية إلى ما بعد الانتهاء من كتابة الدستور ونتحمل تكلفة باهظة بطول المرحلة الانتقالية؟ أم نعجل انتخاب الرئيس متحملين مخاطر فوضى دستورية قد تؤدى إلى نشوب صراع على الصلاحيات بين الرئيس والبرلمان؟ هل نستطيع تدارك الأمر من خلال إعلان دستورى جديد؟ هل أسمع صوت أحدكم يصرخ «ألم نقل لكم من الأول الدستور أولا؟»