السرايا تحل محل الدولة

بسمة قضماني
بسمة قضماني

آخر تحديث: الثلاثاء 3 نوفمبر 2009 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

 
ظهرت السيدة التونسية الأولى، ليلى طرابلسى، فى الانتخابات الرئاسية إلى جانب زوجها أنيقة، رصينة، وتؤدى واجبها كمواطنة عادية من خلال وضع ورقة الاقتراع فى الصندوق كما فى أية انتخابات حرة فى دولة ديمقراطية.

ولكنها أصبحت «وصية عرش قرطاج» حسب قول صحفيين فرنسيين هما نيكولا بو وكاترين غراسيه فى كتاب صدر هذا الشهر فى فرنسا.

يصف الكتاب امرأة ذات وجهين، حيث تنشط السيدة ليلى فى العمل النسوى والدفاع عن حقوق المرأة فى القانون وفى المجتمع، وتقدم نفسها كالوجه الحداثى للبلد الأكثر تقدما فى مجال تحرير المرأة على مستوى المنطقة العربية. ولكن الوجه الآخر الذى عمل على كشفه الصحفيان من خلال هذا التحقيق هو الألاعيب والمؤامرات اليومية فى سرايا قرطاج.

لقد تعب زين العابدين بن على والمرض ينخر جسده، وكلما ازداد إرهاقا، ازداد نفوذ ليلى التى أصبحت تعقد اجتماعات للوزراء فى السرايا وتتسلم كل الملفات والأخبار لتقرر ما الذى يجوز إزعاج بن على به أو ما لا يجوز.

فإذا كان الرئيس يعتقد بأنه يستخدم النسوية لصالح صورته، فإن هذه المرأة هى التى استخدمت مركزها لتستولى على زمام السلطة فى البلاد. ويقول الصحفيان إن زوجة الرئيس تطمح لأن تلعب دورا أساسيا فى عملية الخلافة التى لا يعلم أحد إذا كانت قريبة أو قد تستمر لولاية جديدة كاملة، وربما أكثر.

غريب هذا المزيج بين الضجة الإعلامية حول السيدات الأوليات فى البلدان العربية كنموذج لتمكين المرأة وسيطرت عائلات تلكم السيدات على قطاعات واسعة من النشاط الاقتصادى ــ المالى أحيانا، والاجتماعى فى جميع الأحوال.

هل أصبحن حقا مثالا لتمكين المرأة؟ وهل أصبح التمكين والقدرة على نهب البلد أمرا مشتركا؟ هنا يظهر جليا ما تعانى منه مجتمعات عربية عدة، ويتمثل بالخلط بين الحياة الخاصة والحياة العامة، وبين القضايا السياسية والقضايا المنفعية.

فوراء تلك النساء عائلة مليئة بالأخوة وأولاد العم أو الخال، وهم مرتبطون بسياسيين وبرجال أعمال وضباط فى الجيش وفى الشرطة، وبكل من له علاقة بالفساد على مستوى مرتفع. أولئك يشكلون بيروقراطية متخصصة فى نهب المال العام بشتى الصور.

ويضمون فيما بينهم مجموعة من الخبراء الذين يجيدون اللغات الأجنبية والمتمكنين من الخطاب الذى تريد أن تسمعه المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولى والاتحاد الأوروبى. وبينما يسيطر الرئيس على مؤسسات الأمن والحقل السياسى، تستفرد هذه البيروقراطية بإمكانات البلد.

بغض النظر عما يرويه الكتاب من فضائح عن عائلة زوجة الرئيس التونسى، وأحيانا بأسلوب الصحافة الفضائحية، وهو أسلوب الصحفيين العاملين فى هذا النوع من الصحف،

فإن الكتاب يطرح قضية جوهرية ألا وهى قضية الارتباط العضوى بين نظام سياسى سلطوى من جهة ونظام اقتصادى مبنى على نهب الموارد المالية واستغلال الموارد البشرية من جهة أخرى. لاجديد فى هذا وليست هذه الظاهرة محصورة بتونس، فهى موجودة فى عدد كبير من بلدان العالم بما فيها جميع الدول العربية وتسعون بالمائة على الأقل من دول أفريقيا وباقى الدول النامية التى ما زالت تحت سلطة سياسة استبدادية.

ولكن تزداد خطورة هذه الظاهرة فى ظل المناخ الدولى العام الذى يدفع نحو الانفتاح السياسى واحترام حقوق الانسان من خلال برامج دعم الإصلاح الديمقراطى ومطالبة منظمات حقوق الإنسان الدولية بمحاسبة الحكومات التى تنتهك هذه الحقوق.

ذلك لأن الحكومات الاستبدادية قد فهمت تماما كيف تتعامل مع هذه المطالب. فهى تعلمت طريقة حصر المطالب فى جرعة محدودة، وأحيانا واسعة، من الإصلاحات الدستورية والسياسية والحريات العامة لترضى بذلك الدول المانحة والأصوات العالية التى ترتفع داخل المجتمع المحلى وأحيانا فى مجتمعات الدول المانحة ذاتها.

ولقد فهمت عدد من الحكومات أن هذه التنازلات المحدودة فى المجال السياسى هى الوسيلة الأنجع لإعادة انتاج ذاتها وتجديد أدواتها لتستمر بالانفراد بموارد البلد ولتحافظ على حد أدنى من المصداقية لدى الدول المانحة، ميّسرة بالتالى استمرار تدفق الأموال إلى الحكومة ــ الدولة ــ العائلة باسم تطوير قدراتها لخدمة المصلحة العامة، فى حين تلوثت المصلحة العامة بالمصالح الخاصة لعائلات الحاكم والحكام.

لم تعتمد تونس هذا النهج واستمرت فى التضييق على الحريات وملاحقة المنادين بها، وهى تقدم للعالم صورة نجاح اقتصادى متميز لم يكن ليتم لولا أن حافظ النظام على الاستقرار، وذلك من خلال القضاء على الحياة السياسية.

تكمن أهمية الكتاب، الذى حاولت السيدة الأولى أن تضغط، من دون جدوى، من أجل إيقاف نشره فى فرنسا، فى أنه يطرح إشكالية نهج الإصلاح ومن ينشط فى المطالبة به وما ينتج عنه. ففى العقدين الأخيرين، نهضت المجتمعات المدنية فى البلدان العربية،

وذلك من خلال جهد مستمر واستراتيجيات فعّالة من جانب منظمات حقوق الإنسان التى نجحت فى طرح قضايا الحريات السياسية وحرية الرأى على أجندة عالمية أخذت بها منظمات دولية ذات نفوذ وأوصلتها إلى برلمانات البلدان الديمقراطية والمؤسسات الدولية والحكومات الغربية لكى تدخلها فى دبلوماسية التعامل مع الأنظمة الاستبدادية.

وأدى ذلك إلى إرغام عدد لا بأس به من هذه الأنظمة على الرد ومحاولة تبرير الانتهاكات وأحيانا، إلى تحسين جزئى لوضع حقوق الإنسان.

هذا الانجاز البسيط ــ المحدود فى أغلب الأحيان قد يستمر ويعتبر تقدما نحو الديمقراطية فى حين تبقى قضية إدراة الثروات العامة محمية من أية تدخلات ذات معنى من أجل إدخال مفهوم الشفافية والمحاسبة على برامج الإصلاح.

أمام هذا الظلام الذى يحيط باستخدام الموارد الوطنية والأموال الطائلة الناجمة عن خصخصة شركات القطاع العام أو الصناديق السيادية المكونة من إيرادات النفط، تعترف منظمات المجتمع المدنى بأنها غير مهيأة لفتح هذه الملفات وطرح الأسئلة. أولا، لأنها تفتقر للمعلومات الأساسية عن هذا القطاع، وثانيا، لأن الناشطين فيها لم يكرسوا جهدا حقيقيا لفهم وتحليل هذا القطاع من نشاط النظام.

لقد تطورت أوتوقراطيات اقتصادية ربما تكون أخطر من الوجه السياسى لهذه الأنظمة لتصبح هى أيضا جزءا مما كان يسمى «بالدولة العميقة» إشارة إلى سيطرة الجيش فى تركيا على السلطة الفعلية وتحكمه بمصير البلاد خلف مؤسسات الدولة التى تحكم فى الواجهة.

ربما يحتاج الناشطون السياسيون إلى أن يستعينوا بكفاءات الاقتصاديين للبدء فى معالجة منهجية وموثّقة لهذا الميدان الذى يتحرك فيه رجال هذه البيروقراطية وتتحكم بقراراته قبضة من النساء اللواتى فهمن قواعد اللعبة أكثر من أزواجهن.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved