حرية تداول المعلومات والأمن القومى فى الدستور الجديد
ماجد عثمان
آخر تحديث:
الأحد 3 نوفمبر 2013 - 7:00 ص
بتوقيت القاهرة
أعتقد أن أحد المواد الأكثر أهمية فى الدستور الجديد هى المادة 50 والمتعلقة بحرية تداول المعلومات. ولا أقول ذلك من منطلق الاهتمام المهنى بقضية إنتاج وتداول المعلومات ولكن أقول ذلك لأن الوصول إلى تداول حقيقى للمعلومات فى مصر سيكون هو بوابة التحديث لمصر صاحبة أقدم حكومة. وهذه الحكومة التى يرجع تاريخها إلى آلاف السنوات أرست مفاهيم وفرضت تقاليد للعلاقة بينها وبين المواطن تكرس أبوية الحكومة. وخلال العقود الستة الأخيرة تلاشت الحدود بين مفهوم الحكومة ومفهوم الدولة وأصبحت الحكومة هى الدولة، وساعد على ذلك مناخ أدى إلى إضعاف الأحزاب والحد من حرية حركة مؤسسات المجتمع المدنى وتأميم النقابات وتلاشى الفصل بين السلطات لتتوحد كل مؤسسات الدولة فى شخص الرئيس «الإله».
فى ظل هذا المناخ ومع التهديدات الخارجية التى واجهت مصر خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات نما الحس الأمنى وتبلورت فكرة الحفاظ على الأمن القومى وهو شىء محمود فى دولة كانت طرفاً مباشراً فى أربع حروب خلال ربع قرن (حرب 48 وحرب 56 وحرب 67 وحرب 73). إلا أن مصطلح الأمن القومى تغلغل فى ثقافة المصريين بشكل مبالغ فيه وتسلل من ثم وعلى نطاق واسع إلى مفرداتهم. وتم إلصاق وصف قضية أمن قومى بكثير من التحديات التى تواجه مصر مثل البطالة، والتعليم، والمياه، والطاقة، والإكتفاء الذاتى من القمح، والبلهارسيا ثم بعد القضاء عليها فيروس سى، وتنمية سيناء، ومشروع الضبعة، وتوفير رغيف الخبز، والزيادة السكانية، وتعمير الصحراء، وتعاطى المخدرات. وتمتد القائمة لتشمل قضايا فرعية ولا ترقى لمستوى الظاهرة مثل بضع زيجات تتم بين شباب مصرى وفلسطينيات من عرب 48 اللاتى يحملن الجنسية الاسرائيلية.
أتحدث عن هذا الموضوع بمناسبة الحوارات الدائرة حول المادة 50 من الدستور الجديد الخاصة بحرية تداول المعلومات والتى يرى البعض ضرورة الإشارة فى الدستور إلى أن الإتاحة يجب أن تكون مقيدة باعتبارات الأمن القومى. والبعض الآخر يرى عدم النص على ذلك فى الدستور وتناوله فى القانون المنظم لتداول المعلومات. وأود أن أشرح مبررات الفريق الثانى الذى لا يقل وطنية عن الأول ولا يرغب بطبيعة الحال فى حدوث ما يمس الأمن القومى. وجهة النظر الثانية تنطلق من أن الأصل فى المعلومات هو الإتاحة والاستثناء هو الحجب، وأن هناك حالات تستوجب عدم إتاحة المعلومات أهمها اعتبارات الأمن القومى. ويرى هذا الرأى أن إعتبارات الأمن القومى ليس المبرر الوحيد للحجب، حيث هناك حالات أخرى تستوجب الحجب منها حجب البيانات الشخصية حفاظا على الخصوصية، والحفاظ على سرية المعلومات المتصلة ببراءات الاختراع حفاظا على حقوق الملكية الفكرية، والحفاظ على الأسرار التجارية. وأن أسباب الحجب قد تتغير مع تغير الزمن ومن ثم فإن محلها القانون وليس الدستور، كما أن النص على اعتبارات الأمن القومى دون غيرها يعطى رسالة خاطئة لاسيما فى ظل تعريف فضفاض لاعتبارات الأمن القومى كما سبق أن أشرنا.
هذا التوسع فى استخدام كلمة الأمن القومى أفقد الكلمة معناها وجعل الكثيرين لا يأخذوا الكلمة مأخذ الجد حتى وإن صدرت عن الأجهزة المسئولة عن حماية الأمن القومى، والتى ربما توسعت فى المفهوم بشكل لا يخلو من مبالغة تضر أكثر مما تنفع. والأهم من ذلك أن مفهوم الأمن القومى لم يطرأ عليه تطور يضاهى التغير فى طبيعة المخاطر التى تواجه مصر ولا فى الأدوات التى تهدد الأمن القومى ليس فى مصر وإنما عالمياً. فغنى عن البيان أن مفهوم الأمن القومى الذى كان مناسباً للستينيات لم يعد مناسباً الآن وهو ما يدركه بالطبع خبراء الأمن القومى وخبراء الدراسات الاستراتيجية المصريين. فالخطر الذى كانت تتعرض له مصر كان يتمثل بالدرجة الأولى إلى اعتداء خارجى من خلال حرب تقليدية تلعب فيها الطائرات والدبابات الدور الرئيسى، أما الآن فالأمر مختلف والمعلومات التى كانت سرية فى الستينيات أصبحت فى متناول لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب لأى هاو فما بالنا بأجهزة مخابرات الدول المعادية أو المنافسة.
من الملاحظ أن التقاطع بين اعتبارات الأمن القومى واعتبارات التنمية والنمو الاقتصادى يُحسم دائما من جانب المسئولين عن الأمن القومى لغير صالح التنمية والنمو الاقتصادى، وهنا أشير إلى بعض التفاصيل المهمة:
• إن إحداث تنمية حقيقية وتحقيق نمو مستدام للاقتصاد المصرى فى ظل نظام صارم لتحقيق العدالة الاجتماعية سيؤدى إلى تخفيض معدلات البطالة بشكل ملموس وسيؤدى إلى حالة من الاستقرار السياسى وسيشكل بيئة طاردة للتطرف والإرهاب وأظن أن ذلك هو حجر الزاوية فى تحقيق الأمن القومى المصرى وما مر بمصر فى الأشهر الماضية هو خير شاهد على ذلك.
• إن الاستخدام المبالغ فيه لاعتبارات الأمن القومى عطل كثيراً من المشروعات وأضاع أو أجل فرصاً لتحقيق نمو للإقتصاد المصرى بصورة غير مبررة، وأذكر فى هذا الخصوص تأخير الموافقة على تشغيل خدمة الهاتف المحمول وتأجيل إدخال خدمة الـ جى بى أس والذى وصل لعدة سنوات حتى أصبحت مصر من الدول القليلة فى العالم التى لا يستخدم مواطنيها هذه الخدمة. والأغرب من ذلك تأجيل الموافقة على إدخال خدمة الدفع بواسطة الهاتف المحمول لأكثر من عامين. ومثل هذا التأجيل ــ والذى يجعلنا دائما فى مؤخرة الدول بدون مبرر ــ يُضيع على الوطن الاستفادة من فرص العمل التى يمكن أن تخلقها هذه المشروعات والضرائب التى ستدفعها الشركات العاملة فى هذا المجال للدولة، كما يُقلل من تنافسية مصر على المستوى العالمى والإقليمى، وهو بالتالى يضر بالأمن القومى أكثر مما يفيده.
• أشير هنا بالتفصيل إلى إدخال خدمة الدفع بواسطة المحمول والتى تأخرت لأكثر من عامين. وهذه الخدمة ليست مجرد وسيلة ترفية إضافية بدلا عن الدفع النقدى، وإنما حقق تطبيقها نجاحات موثقة فى كثير من الدول النامية فى توفير تمويل للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر للفقراء الذين عادة ما لا تتاح لهم فرص الائتمان المصرفى وتشكل السيولة النقدية لهم معضلة كبيرة. والتطبيق فى كينيا خير مثال على ذلك، والتى أدخلت هذه الخدمة قبل مصر بأكثر من خمس سنوات ولم يثبت أن هذه الخدمة أثرت على الأمن القومى فى كينيا بل ربما تكون قد خلقت فرصاً للعمل وساهمت فى التقليل من معدلات الفقر وهو ما لا أظنه يتعارض مع اعتبارات الأمن القومى.
• وإذا نظرنا للمستقبل، فهناك تخوف من أن تتحول التصريحات التى بدأت تظهر مؤخرا عن التهديدات التى قد تتعرض لها قناة السويس، إلى ذريعة للإبقاء على القناة كممر مائى. وتكتفى مصر بالنصيب الريعى فى الحصول على رسوم المرور ولا يتحول دورها من الدور السلبى لتلقى إيرادات ما ورثته عن الأباء إلى دور إيجابى فى تنمية منطقة للخدمات والصناعة حول هذا الشريان الفريد الذى حبى الله به مصر. وكلما أنظر إلى خريطة العالم وأرى موقع مصر وأرى الدخل الذى تولده مناطق مثل جبل على وجبل طارق أقول فى نفسى وبكل ألم لماذا تكون إدارة بلا موقع خير من موقع بلا إدارة.
أعلم أن حديثى هذا لن يلقى رداً من المسئولين عن الأمن القومى وهو موقف أفهمه وإن كنت لا أتفهمه، ولكن الأهم من الرد هو تأمل الرأى الآخر بقدر أكبر من المرونة والإستعداد النفسى لإحداث مراجعات ما دامت تصب فى صالح الوطن.