عن التحرش الجنسى فى مصر
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 3 ديسمبر 2010 - 11:01 ص
بتوقيت القاهرة
قرأنا فى الصحف الصادرة بعد إجازة العيد، أن الشرطة سجلت من أعمال التحرش الجنسى خلال أيام العيد عدة مئات، ولابد أن أعمال التحرش التى لم تصل إلى علم الشرطة تفوق ذلك بكثير.
ثم سمعت من أستاذ مصرى يقوم بتدريس اللغة العربية لمجموعة من الشبان والشابات الأمريكيين، الذين جاءوا إلى مصر لقضاء عدة شهور فى تعلم اللغة العربية، أنهم مروا بتجربة سيئة للغاية خلال أيام العيد، التى قضوها فى الإسكندرية، فتعرضت الفتيات لهذا التحرش أثناء سيرهن على كورنيش البحر.
كان التحرش أساسا بالكلام البذىء، وكان الشبان المصريون يظنون خطأ أن الفتيات لا يفهمن العربية، ولكن التحرش تجاوز الكلام البذىء، وشعرت الفتيات كما شعر الشاب الأمريكى المرافق لهن بضيق وغضب شديدين، ولكنهم لم يعرفوا كيف يتعاملون مع جمهور من الشباب المصرى الذين يشجع بعضهم بعضا، ولا يبدون وكأنهم يكترثون بأى شىء.
بعد انقضاء الإجازة بأيام قليلة رأيت فى بعض الصحف المصرية صورة مدهشة، وهى صورة وزيرة شئون السكان والأسرة، وهى وزارة حديثة فى مصر، وهى تقود مظاهرة صغيرة (أظن أنها كانت، كما يبدو من الصورة، داخل أسوار جامعة القاهرة) وإلى جانبها سيدتان فاضلتان تحتلان مركزين مهمين يتعلقان بالتعليم والسكان، ويحيط بهن عدد قليل من النساء والرجال يحملون بعض اللافتات، وقرأت تحت الصورة أن المظاهرة كانت احتجاجا على التحرش الجنسى.
اعتبرت القيام بمظاهرة من هذا النوع أمرا مدهشا، لاعتقادى أن المشكلة أعقد بكثير من أن تساهم مظاهرة فى حلها، بل وأعقد بكثير أيضا من أن تستطيع حلها المؤسسات الثلاث التى ترأسها أو تعمل بها السيدات الثلاث الفاضلات، إذا لم تعضدها سياسات تتخذها وزارات ومؤسسات أخرى كثيرة، وتستمر فاعليتها مدة طويلة من الزمن، تقارب فى طولها المدة التى انقضت منذ بدأ هذا التدهور المريع فى أحوال الشباب والمجتمع المصرى، وأدى فى النهاية إلى ظاهرة التحرش الجنسى، بالدرجة التى شهدناها فى الأيام الأخيرة، وظواهر أخرى شبيهة بها، فما الذى حدث بالضبط وأدى إلى هذه النتيجة؟
ظللت لمدة أطول من أربعين عاما أعتمد على مترو حلوان للوصول إلى مكان عملى. كنت أركبه أولا إلى محطة باب اللوق، ثم بعد عشرين عاما (بعد أن تحول إلى مترو الانفاق) إلى ميدان التحرير. ثم توقفت عن ذلك منذ أربع أو خمس سنوات عندما أصبح من الصعب على أن أصعد 76 درجة من درجات السلم فى محطة ميدان التحرير (أو السادات) التى تقودنى إلى الشارع.
ظل هذا المترو طوال هذه المدة أفضل وسيلة فى نظرى للوصول إلى ميدان التحرير. ففى العشرين سنة الأولى (من منتصف الستينيات إلى منتصف الثمانينيات)، لم يكن يعيبه إلا ما كان يطرأ عليه فى فترات معينة من اليوم من ازدحام شديد، وهى فترات خروج عمال المصانع من حلوان ثم من ثكنات المعادى، فيصبح حتى الوقوف أمرا صعبا، كما يصبح الخروج من القطار فى المحطة التى تريد النزول فيها أمرا غير موثوق به. بل قد يضطرك الازدحام الشديد، ورغبة بعض الركاب فى النزول فى محطة غير التى تريد النزول فيها، إلى النزول معهم إلى الرصيف بالرغم منك، مدفوعا بضغط الأجسام البشرية. ولكن كانت هذه مشكلة بسيطة يمكن تجنبها بتجنب أوقات خروج العمال.
بتحول المترو إلى مترو الأنفاق، بما صحبه من زيادة عدد العربات وتقصير المدد بين القطارات، خفت بشدة مشكلة الازدحام ولكنى فوجئت قبل سنتين أو ثلاث من توقفى شبه التام عن ركوب المترو، بظهور مشكلة جديدة ليس فقط على، بل وأيضا على مصر. فأثناء العودة من ميدان التحرير يفاجأ الركاب فى بعض المحطات، كالسيدة زينب أو الملك الصالح، بصعود عدد كبير من الصبية والشبان الصغار، فى بداية أو منتصف سن المراهقة، إلى عربات المترو وهم يرتدون الزى المدرسى، ويحملون بعض الحقائب، ولكن ملابسهم مهلهلة للغاية، وحقائبهم وأحذيتهم فى حالة يرثى لها، فإذا بهم ينتشرون بسرعة فى عربات المترو، ويجرون فى ممراتها غير عابئين بالواقفين فى طريقهم.
ويصيح بعضهم ببعض من أول العربة إلى آخرها، ويلوحون بالأيدى والحقائب، ويتبادلون السباب والصراخ والعبارات البذيئة، مما يثير الرعب بين الجالسين والواقفين من الركاب الآخرين، من الرجال والنساء، العائدين مرهقين من وظائفهم، ولا يستطيعون التكهن بما يمكن أن يصدر من هؤلاء الشياطين الصغار الذين لا يبدو عليهم، وكأن من الممكن أن يوقفهم أحد عند حدهم.
إن أى تأمل بسيط لوجوه وسلوك هؤلاء الصبية الشباب الصغير يبين لك على الفور أنهم مجموعة من الشباب الضائع الذين لم يقم بتربيتهم أحد، لا أسرة ولا مدرسون، ولا يمكن أن يردعهم أحد، لا أب ولا أم ولا ناظر مدرسة، وإن أقصى ما يمكن أن يتلقوه من دروس فى السلوك هو ما يرونه ويسمعونه من التليفزيون الذى تختلط فيه مشاهد الإثارة الجنسية، مع إعلانات السلع المثيرة لرغبات لا يستطيعون تحقيقها، مع أحاديث دينية ومواعظ منبتة الصلة بواقع حياتهم اليومية.
ليس من الصعب بالمرة أن تتخيل ما لابد أن يحدث لهؤلاء الصبية مع تقدمهم فى السن، سواء دخلوا جامعة أو معهدا فنيا أو اشتغلوا فى ورشة أو بالخدمة فى مطعم، أو بوظيفة توصيل الطعام إلى المنازل، أو منادين فى أماكن ركن السيارات، أو فشلوا فى الحصول على أى فرصة من هذه الفرص الرائعة فجلسوا أمام أى تليفزيون فى أى منزل أو حجرة فى إحدى العشوائيات أو فى أى مقهى قريب.
فإذا جاء العيد واستطاعوا بأى طريقة أن يجمعوا بضعة جنيهات وخرجوا إلى الطريق العام، أو ساروا على كورنيش النيل فى القاهرة أو البحر فى الإسكندرية، ما الذى يمكن أن يصنعوه لقضاء الإجازة بنقودهم المعدودة، غير التحرش بالناس؟
وما الذى يمكن أن يردعهم أو يخافوا من فقده، احترام الناس؟ أم حب الأب أو الأم؟ أم عطف الأخ الذى حاول السفر بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا أو اليونان بحثا عن عمل، فلم ينجح ورجع خائبا ليجلس أيضا على مقهى أمام التليفزيون؟ أم يخافون من بطش رجال الشرطة الذين لم يعد حالهم أفضل كثيرا من حالهم، فهم أيضا شباب صغير شديدو الهزال وسيئو التغذية، ولديهم نفس ما لدى بقية الشباب من مشاعر الإحباط والسخط على مجتمع لا يبالى فيه أحد بهم؟
هذا هو فيما يبدو لى التفسير الحقيقى لظاهرة التحرش الجنسى فى مصر، وهو تفسير يذكرنا، من بعض النواحى، بقصة يوسف إدريس الشهيرة (أرخص ليالى) التى وصف فيها حالة فلاح صغير معدم، لم يجد أمامه فى نهاية اليوم من وسيلة للترفيه عن نفسه إلا أن يرقد إلى جوار زوجته المنهكة بدورها. هؤلاء الشبان الصغار يبحثون بدورهم فى أيام العيد، عن أرخص وسيلة للترفيه عن أنفسهم من واقع بائس، ولكنها أفظع من الطريقة التى كان يتكلم عنها يوسف إدريس.
لقد مضى على كتابة يوسف إدريس لقصته أكثر من ستين عاما، تضاعف فيها سكان مصر أكثر من ثلاث مرات، وانتقل خلالها ملايين من سكان الريف إلى المدن بحثا عن عمل، فلم يجد عملا مجزيا إلا نسبة صغيرة منهم فى العشرين سنة الأولى (التالية لكتابة أرخص ليالى) وجد كثير منهم عملا محترما فى مصانع حصلوا منها على دخل معقول ودرجة معقولة من احترام النفس، ومن هؤلاء من كان يزدحم بهم مترو حلوان فى الخمسينيات والستينيات.
فى العشرين سنة التالية، ذهب كثيرون منهم إلى الخليج واستطاعوا الزواج بما جمعوه من مدخرات، فلم يفكروا فى التحرش بأحد فى الأعياد. ولكن فى العشرين سنة الأخيرة، التى لم يتوقف خلالها السكان عن الزيادة بالطبع، أغلق كثير من أبواب الرزق فى الخارج والداخل.
فى الخارج بسبب تضاؤل الطلب على العمالة المصرية فى دول البترول، وفى الداخل بسبب الانفتاح الزائد على الحد، وسحب يد الحكومة أكثر فأكثر من التدخل فى الاقتصاد، وتفضيل القطاع الخاص تشغيل الآلات على تشغيل العمال، فلم تعد الأعمال الباقية المتاحة لأغلبية الشباب المصرى من النوع الذى يشغلهم عن التحرش بالنساء.
طوال هذه العشرين سنة الأخيرة لم يبد من الحكومة المصرية أى قلق جدى من تفاقم المشكلة، إذ كان الذى يقلقها أشياء أخرى لا داعى للخوض فيها الآن. لا مانع من التظاهر بالعمل على حل المشكلة، كإنشاء وزارة للشباب مثلا، أو كنشر أرقام تدل على انخفاض البطالة، مع أن العين المجردة كافية للتدليل على تفاقم المشكلة يوما بعد يوم.
لابد إذن أن المسئولين وجدوا طريقة لحساب العمالة والبطالة من شأنها أن يدرج هؤلاء الشبان الضائعون فى عداد المشتغلين. وعندما رأوا أن هذه الأرقام لم تحل مشكلة الشباب فكروا فى إنشاء وزارة جديدة اسمها «وزارة السكان والأسرة»، فلم تستطع بدورها حل المشكلة، إذ إن الوزيرة الجديدة لا تستطيع أن تصنع شيئا إلا بالتعاون مع وزراء الاقتصاد والصناعة والتجارة والتنمية، وهؤلاء الوزراء بدورهم مشغولون بأشياء أخرى أهم لديهم من مشكلة الشباب والتحرش الجنسى.
لم يبق إذن إلا حل واحد، وهو أن تنظم الوزيرة مظاهرة فى مكان آمن تماما من أى تحرش، وتنضم إليها فيها بعض السيدات الفاضلات الآمنات بدورهن من أى تحرش، فيرفعن بعض اللافتات التى تنادى شباب مصر بالكف عن أى عمل يخدش الحياء، على شرط أن تلتقط بعض الصور للمظاهرة، حتى يعم الانتفاع بها.