الإعلان الدستورى وطبيعة أعمال السيادة

إبراهيم يسري
إبراهيم يسري

آخر تحديث: الإثنين 3 ديسمبر 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

بعد صراع ضارٍ بين المحكمة الدستورية العليا المتعاقبة بحل مجلس الشعب وحل الجمعية التاسيسية الأولى والترتيب لحل الجمعية التأسيسية الثانية، الأمر الذى تخلت معه المحكمة الدستورية عن صفتها القضائية ودخلت كطرف فى الصراع السياسى، تحسب رئيس الجمهورية لهذا الانحراف القضائى فأصدر اعتمادا على شرعيته الثورية وصلاحياته الدستورية اعلانا دستوريا يحصن فيه كل ما يخص البرلمان والجمعية التأسيسية والقرارات الجمهورية الصادرة والمستقبلة من رقابة المحكمة الدستورية.

 

 

قوبل ذلك الجزء من الاعلان الدستورى بمعارضة عنيفة من قوى المعارضة ومن بعض القضاة على اعتبار انه يمس استقلال القضاء ويقيد سلطاته، ومضت القوى السياسية المعارضة إلى طلب الغاء ذلك الاعلان الدستورى بأكمله رغم ما تضمنه من مطالب الثورة الخاصة بالقصاص للشهداء وتخصيص معاش لأسرهم وللمعوقين منهم.

 

•••

 

ويدعونا ذلك إلى البحث عن نشأة فكرة أعمال السيادة التى ابتدعها مجلس الدولة الفرنسى الذى أنشأه نابليون، كنظرية قضائية لتقليص رقابته على أعمال السلطة التنفيذية، خوفا من بطش نابليون به، غير ان مجلس الدولة الفرنسى، بعد أن استقرت رقابته تحول عن قضائه السابق فى أعمال السيادة، ليضيّق من نطاق هذه الأعمال، لتوسيع وتأكيد رقابته على كل أعمال السلطة التنفيذية فى تحول يهدف إلى حماية الحريات العامة، لضمان مشروعية تدخل الدولة فى تنظيمها.

 

أما فى مصر فقد نص قانونها على اختصاص القضاء العادى والإدارى على خروج أعمال السيادة عن ولاية المحاكم، واستقر القضاء والفقه على أن أعمال السيادة هى بطبيعتها أعمال إدارية ولكنها بمنجاة عن كل رقابة قضائية مهما كانت درجة عدم مشروعيتها،  وقد وردت أعمال السيادة ونص عليها فى المادة 17 من القانون 46 لسنة 1972 فى شأن السلطة القضائية (المحاكم العادية) والمادة 11 من القانون 47 لسنة 1972 بالنسبة لمجلس الدولة وقد ترك المشرع المصرى فى القانونين تعريف أعمال السيادة للقضاء وتحديده.

 

وأيدت المحكمة الإدارية العليا هذا القضاء حيث قالت: «كذلك فإن الدافعين مردودان بما هو مستقر عليه من أن أعمال السيادة استثناء يمثل خروجا على مبدأ المشروعية ويخضع لقاعدة التفسير الضيق وعدم القياس، وبالتالى فإن القائمة القضائية لما يعد من قبيل هذه الأعمال يسير فى اتجاه مضاد لاتساع دائرة الحقوق والحريات العامة، لذلك حرصت المادة (17) من قانون السلطة القضائية على النص على أن «تعتبر أعمال السيادة أعمالا سياسية من شأن السلطة العليا للدولة»، كما استقر القضاء الإدارى على تطبيق نظرية القرارات القابلة للانفصال عن هذه العمليات المشتملة على عمل سيادى ومنها ما يخص العلاقات الدولية «mesure detachable de la conduite des relations internationales إذ لا تشكل هذه القرارات أعمالا سيادية ينحسر عنها اختصاص القضاء الإدارى Elle ne constitue pas par suite un acte de gouvernement qui échapperait a la competence de la juridiction administrative،  ولذلك استقرت المحكمة الدستورية العليا منذ سنوات عديدة إلى أن أعمال السيادة المراد فى تحديدها للقضاء».

 

•••

 

 وحدد القضاء المصرى عددا من الضوابط التالية التى أرستها أحكام محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا:

 

لا تنصرف أعمال السيادة إلا إلى الأعمال التى تتصل بالسياسة العليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها فى الداخل والخارج، أحكام الأعمال المنظمة لعلاقة الحكومة بمجلسى البرلمان وبضمان سير السلطات العامة وفقا للدستور، الأعمال المتعلقة بسير مرفق التمثيل الدبلوماسى ضم إقليم، رفض التدخل بالطرق الدبلوماسية، إبرام المعاهدات وما يتعلق بها وبعض الأمور المتعلقة بالحرب وبسلامة الدولة فى أمنها الداخلى قضت محكمة القضاء الإدارى الدائرة الأولى بهيئة مغايرة بعدم اختصاصها بالنظر فى وقف قرار رئيس الجمهورية بالامتناع عن تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل وإلغائها مع ما يترتب على ذلك من آثار، قرار تعيين رئيس مجلس الوزراء والوزراء وإعلان حالة الطوارئ وتوارت نظرية أعمال السيادة وتضاؤل تطبيقها أمام الدعوة إلى التضييق من نطاق تطبيقها، بحيث لا تطبق إلا فى أضيق الحدود، وذلك لبسط رقابة القضاء على كل أعمال السلطة التنفيذية.

 

كما قضت المحكمة الدستورية العليا أن العبرة فى تحديد التكييف القانونى لأى عمل لمعرفة ما إذا كان من أعمال السيادة أم لا بطبيعة العمل ذاته، فلا تتقيد المحكمة وهى بصدد إعمال رقابتها على دستورية التشريعات بالوصف الذى يرد بالمذكرات الإيضاحية أو حتى بالوصف الذى يخلعه الشارع على التصرفات والأعمال متى كانت طبيعتها تتنافر مع هذا الوصف وتنطوى على إهدار حق من الحقوق التى كفلها الدستور.

 

وقضت المحكمة العليا بأنه من المستقر عليه من أن أعمال السيادة استثناء يمثل خروجا على مبدأ المشروعية ويخضع لقاعدة التفسير الضيق وعدم القياس وبالتالى فإن القائمة القضائية لما يعد من قبيل هذه الأعمال يسير فى اتجاه مضاد لاتساع دائرة الحقوق والحريات العامة.

 

وقالت المحكمة إنه من المقرر أن القضاء الإدارى ليس ممنوعا بحكم النصوص المغلقة لباب الطعن بالإلغاء إلا من النظر فى قرارات إدارية بذاتها.. ذلك أن الأصل فى بلد يقدس نظامه العام مبدأ المشروعية هو تسليط رقابة الإلغاء على القرارات الإدارية كافة دعما للضمانة الأصلية التى يحققها قضاء الإلغاء لمن تحيفت بهم تلكم القرارات فإذا ورد فى قانون نص يقضى باستثناء طائفة من القرارات من رقابة الإلغاء والتعويض وجب تأويل هذا النص بصورة ضيقة حرصا على عدم إهدار هذه الضمانة التى يوفرها قضاء الإلغاء.

 

•••

 

ويتفق الفقه على مخالفة نظرية أعمال السيادة لمبدأ المشروعية وسيادة القانون، حيث إن هذه النظرية تتعارض مع المشروعية كما يرون بأنها تمثل اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم باعتبارها مانعا من موانع التقاضى، بل واعتداء على السلطة القضائية،  وذلك بحجب اختصاصها عن المنازعات التى تثار فى شأن أعمال السيادة، كما أنها تخالف النصوص الدستورية التى تقضى بصيانة وكفالة حق التقاضى للناس كافة.

 

إلا أن الفقه مستقر إلى أنه رغم مخالفة نظرية أعمال السيادة لمبدأ المشروعية واعتدائها على حقوق الأفراد وحرياتهم ومخالفتها للنصوص الدستورية التى تكفل التقاضى للكافة، ورغم انتقاد هذا الرأى للنظرية، إلا أنه لا يذهب فى نقده لها إلى درجة إنكار وجودها، فهى حقيقة قانونية واقعية لا يمكن تجاهلها، ويرى أصحاب هذا الرأى أن التعامل مع هذه النظرية يكمن فى التوفيق بين اعتبارين: الأول هو ضرورة الإبقاء على نظرية أعمال السيادة، والثانى هو ضرورة احترام حق التقاضى وكفالته.

 

•••

 

والخلاصة هى ان أعمال السيادة تحتمل مفاهيم مختلفة ومختلطة ويرجع تحديدها للمحاكم وليس للمشرع الدستورى أو القانونى، ومن هنا فإن الإعلان الدستورى لا يخرج عن ولاية المحاكم إلا بالاستناد للشرعية الثورية.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved