ترقيع أم تطبيع.. تاريخ موقف الكنيسة تجاه إسرائيل؟
كريم ملاك
آخر تحديث:
الخميس 3 ديسمبر 2015 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
إذا قررنا أن نصدق كلام قداسة البابا تواضروس الثانى أن هذه الزيارة للقدس رعوية، أى لصلاة الجنازة على الأنبا إبراهام مطران أورشاليم، وليست سياسية، فنصبح أمام عدة صياغات لمفاهيم تقاليد الكنيسة الرسولية، الأمر الذى يضع الكنيسة القبطية فى مكانة خاصة ويجعل بعض المسيحيين فى الغرب يسعون لزيارة مصر لكى يلتمسوا هذه الكنيسة الذى يمتد تاريخها للرسل.
فالتناقض هنا هو فى فصل مفهوم السلطة الرعوية عن الأمور السياسية. المشكلة هنا هى أن هذا هو موقف إسرائيل بالضبط فى رفعها الحصار على القدس من قبل العرب عبر تضييق وحصر مفهوم المقاطعة خارج إطار التقديس والذهاب إلى المسجد الأقصى، بهذا التناقض يستمر مفهوم المقاطعة لإسرائيل وتستمر عملية التقديس والسياحة الدينية.
تَكمن المفارقة هنا أيضا إذا قررنا أن نعطى قداسة البابا حقه فى التعبير عن «نفسه» وإتمام رغبة الأنبا إبراهام ووصيته، فى أن تصبح المواقف الرعوية التى تصيغ تقاليد الكنيسة مشخصنة، أى هناك فصل بين ما هو رعوى ــ وهنا تناقض فج ــ وما هو سياسى، أى موقف الكنيسة فى مقاطعة إسرائيل. فبهذا التطور تصاغ مفاهيم وتقاليد السلطات الرعوية على أنها شخصية غير سياسية فى حين أن التنحى ــ أحيانا ــ عن المواقف السياسية هو فى حد ذاته موقف سياسى. ولعلَّ هنا بعض الحكمة فى السماع لإخوتنا الفلسطينيين الذين عبروا عما أراه أكثر رأيا محنكا حول الزيارة.
فيقول محررو قسم الرأى فى جريدة القدس:
إن تبوؤ المقام الرفيع للبابوية على رأس إحدى أعرق الكنائس التاريخية فى العالم، كزعيم لأكبر طائفة مسيحية فى الشرق الأوسط، لا يترك «مجالا شخصيا» لمن يتم اختياره بـ«رغبة إلهية» حسبما يؤمن أتباعه. وبالتالى فإن أى تصرف أو سلوك لا يمكن إلا أن يحسب عليه بصفته الكنسية.
***
نرى هنا احتراما واضحا للكنيسة وتقاليدها بالمقاطعة منذ ١٩٦٧ الأمر الذى دفعت الكنيسة ضريبته، ليس فقط فى الاستيلاء على دير الكنيسة القبطية «دير السلطان» فى القدس رغم حصول الكنيسة القبطية على حكم محكمة من سلطة الاحتلال لتسليمه لها بدلا من إعطائه لكنيسة الحبشة، بل أيضا فى طبيعة السياسة الإسرائيلية المعادية للكنيسة القبطية نتيجة لموقفها بمقاطعة إسرائيل. لذلك يتم افتعال عدة صراعات بين الكنائس فى القدس من خلال محاولة سلطة الاحتلال فتح عدة طرق وبوابات جديدة لكنيسة القيامة لانتزاع مهمة حراسة الكنيسة من العائلتين المسلمتين وهما عائلتى آل جودة وآل نسيبة.
فلا ننسى أن فى لُب الانتفاضة الثانية قررت طائفة الكنيسة المعمودية فى الولايات المتحدة دعم إسرائيل بعد أن قررت عدة دول مقاطعة إسرائيل وتم ضرب السياحة الإسرائيلية، ولذلك قررت بعض الكنائس الأخرى رفع الحصار عن إسرائيل عبر قرارهم بالذهاب للقدس لكى يدعموا ما يرونهم شعب الله المختار.
نتذكر هنا الثمن الباهظ الذى دفعته الكنيسة فى عصر البابا شنودة عندما تم الدفع بعملية كامب ديفيد ورفض البابا للذهاب لإسرائيل مع السادات، فعندما سافر البابا شنودة إلى أمريكا، رغم تحفظاته، جاء ذلك بعد نحو شهر من زيارة السادات لأمريكا لكى يصادف فى أبريل ١٩٧٧، نتيجة لتعرضه للعديد من الضغوط التى توحى بأنه ضد السلام عندما أعلن رفضه لإطار كامب ديفيد. فعندما زار البابا شنودة الرئيس جيمى كارتر أصر على أن يذهب معه السفير المصرى حتى تكون الزيارة فى إطار سياسى لا دينى. ورغم ذلك فهذا لم يمنع كارتر بسؤال البابا لماذا يرفض زيارة إسرائيل أوليس اليهود شعب الله المختار؟ فرد البابا شنودة: «إن اليهود ليسوا شعب الله المختار وإلا ماذا نسمى الكنيسة المسيحية؟ فإذا كنا نعتقد إنهم شعب الله المختار فمعنى ذلك أننا ــ المسيحيين ــ لسنا مختارين من الله بالمرة». فلذلك رفض البابا شنودة مواءمات المسيحية اليهودية البروتستانتية التى تروج لضرورة «رجوع» اليهود للقدس للتمهيد للمجىء الثانى ومن هنا نرى أهمية هذا المنطق المسيحى الصهيونى لشرعنة عملية الاستيطان فى فلسطين.
***
الكارثة فى هذا أن سفر البابا تواضروس ليس التطبيع، إذا قررنا أن نتبين سردية قداسة البابا، بل أن تصبح فكرة تقاليد الكنيسة مطاطية وتفقد كل ما هو بالضرورة يتسم بتقليد متوارث ومنظر منذ قرار قداسة البابا شنودة الثالث رفضه تجليس أسقف فى أورشليم بنفسه وإرسال وفد لتجليسه، الأمر الذى بنفس مثابة صلاة الجنازة إن لم يكن أهم.
ففى هذا التطور الأخير الخاص بزيارة البابا للقدس واعتبارها زيارة رعوية لم تخرق قرار المجمع المقدس بحرمان كل من يزور القدس، علينا أن نصدق كلام البابا تواضروس الثانى بأن هذا ليس تطبيعا، ولكن التفسير الوحيد هو أنه ترقيع للتقليد الكنسى.