فوائض القوة: زيارة إلى جامعة «بكين»
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 3 ديسمبر 2017 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
«لسنا قوة عظمى.. نحن دولة نامية من العالم الثالث، مازلنا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلم من تجارب الدول الأخرى».
بتلك العبارة القاطعة يوصف الصينيون موقعهم على خرائط القوة والنفوذ والمكانة فى النظام العالمى ـ كأنها حقيقة نهائية لا تقبل تأويلا، أو تراجعا.
كيف؟.. ولماذا؟
«هناك مناطق واسعة تعانى فقرا مدقعا ومن أولوياتنا تحسين أحوالها ومستويات معيشتها قبل ممارسة أى أدوار تنتسب لعظمة القوة، ولا تنس أن المتوسط السنوى لدخل المواطن لا يتجاوز (8000) دولار، وهو أقل مما يحصل عليه مواطنو بعض الدول النامية».
بيقين الأرقام فإن الصين عملاق اقتصادى يكاد يقفز إلى المرتبة الأولى فى الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة، التى تتمتع بثقل القوة العظمى الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تتوافر لديه ترسانات سلاح متراكمة وصناعات عسكرية متقدمة.
رغم تراكم المال والسلاح إلى مستويات قياسية فإن الصين ليس فى عجلة من أمره للعب أى أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر فى انتظار جثة عدوها طافية.
سياسة النفس الطويل من مقومات الحكمة الصينية، كما صاغها فيلسوفها الأكبر «كونفوشيوس» فى العهود الغابرة.
إذا لم تقرأ باستيعاب ذلك الفيلسوف القديم يصعب عليك أن تفهم الشخصية الصينية، أو أن تلم بمفاتيحها الرئيسية.
الحكمة ـ فى تعاليمه ـ أن تعرف مواطن ضعفك قبل قوتك.
أكثر ما يثير الالتفات فى التجربة الصينية قدر التواضع فى النظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة دون صدام مع شرعية الثورة، التى قادها إلى النصر عام (1949) زعيمها «ماو تسى تونج».
بعد رحيل «ماو» عام (1976) دخلت الصين لمدة عامين فى صراعات سلطة وفترة حيرة فى أى طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها «دينج هسياو بينج» ـ نائب رئيس الوزراء التاريخى «شواى لاى» وتلميذه الأقرب ـ وشرع فى وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادى، وفق ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاجتماعى».
النتائج فاقت كل توقع على نقيض ما حدث فى مصر باسم الانفتاح الاقتصادى، الذى استحال إلى نوع من التخريب المنهجى للمقدرات العامة ونهب الثروات الوطنية وتفشى الفساد وإلحاق البلد كله باستراتيجيات التبعية على المستويات كافة.
فى أقل من (40) سنة بنيت الصين من جديد على أسس حديثة، حركة الاستثمار تمضى بكامل قواعد الإدارة الرأسمالية فى إطار مخطط الدولة، التى أتاحت للمنتجات العالمية الشهيرة من وجبات الطعام السريعة إلى السيارات والملابس والأجهزة الإلكترونية أن توجود فى سياق صينى محكم، يراكم الخبرة بالحداثة ويتيح لمواطنيه من أبناء الطبقة الوسطى ذات مستوى ما يتمتع به نظراؤهم فى العواصم الغربية.
هدمت أغلب أحياء العاصمة وبنيت من جديد، ناطحات سحاب تستولى على مشاهدها كأنها تنافس نيويورك، ومترو أنفاق يفوق نظيره الباريسى، وشوارع فسيحة تنتظم فيها حركة المرور بسلاسة، رغم الكثافة السكانية باستثناء فترات الذروة.
بأى نظرة عابرة على الحياة اليومية بالشوارع والمواصلات العامة والمطاعم والأسواق فإن بيجين ـ الاسم الجديد للعاصمة بعد توسعها وتمددها ـ أكثر مدن العالم ارتباطا بالتقنيات التكنولوجية الحديثة.
يمكن وصف التجربة الصينية بـ«رأسمالية الدولة».
ويصعب نسبتها إلى أفكار «ماو» إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعا للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلف المفرط وحروب الأفيون ومستوطنات الذباب إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين فى العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى «ماو» مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هى أفكار وتصورات وسياسات تكاد أن تكون قد طويت.
احترام إرث الماضى وتصحيحه دون صخب مكن بلدا يبلغ عدد سكانه (1.4) مليار نسمة من عبور أى منزلقات تعوق تقدمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل استلهاما للحكمة الصينية الشهيرة.
هذا من مقومات سياسة النفس الطويل وتصحيح الأخطاء ومواجهة الحقائق، كما هى على الأرض بلا ادعاء توضع.
المبدأ الصينى الحاكم فى إدارة السياسة العامة يمكن تلخيصه على النحو التالى: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات.
حسب نبوءة «نابليون بونابرت» فإن العالم سوف يتغير إذا ما استيقظ العملاق الصينى من سباته الطويل.
الغرب يترقب ما قد يحدث فى المستقبل والصين أمامه لغز يستعصى على الفهم والإحاطة، رغم أن حجم ما ينشر عنها فى الميديا الغربية يفوق ـ فى بعض الأحيان ـ اهتمامها باقتصادات بلدانها.
تحت السطح الصينى لا يوجد ذلك الخمول السياسى الذى نتصوره من بعيد، فهناك مراجعات لتجربة ما بعد الثورة وانقسام فى تقدير أوزان رجال التاريخ وشىء من النقد المباح لأوجه القصور فى السياسات الحالية.
كل ذلك يومئ إلى تحولات مقبلة تصحح بنية النظام السياسى، لكنها سوف تأخذ وقتها وتجرى وقائعها على الطريقة الصينية المتريثة.
فى محاضرة دعيت لإلقائها بجامعة «بكين» العريقة بتاريخها والحديثة بمناهجها عن الصراع الإقليمى فى الشرق الأوسط، لفت إلى أن الصين مدعوة خلال عشرين سنة على أعلى تقدير لإجابة أخرى عن سؤال التحول إلى قوة عظمى لها نفوذها فى الملفات الدولية.
بصياغة مباشرة: كيف سوف تتصرف فى فوائض القوة المتراكمة والتى سوف تتراكم؟
تراكم المال والسلاح يوفر أساسا متينا للقوة العظمى، لكنه لا ينهض وحده بالمهمة ما لم يستند إلى بنية سياسية وإعلامية تلهم أوسع مشاركة وتضخ الدماء فى بنية النظام وقدرته على التجدد والتحديث والحفاظ بالوقت نفسه على قوة الدفع.
على عكس التصورات الشائعة فى العالم العربى، لم تكن هناك أدنى مشكلة فى تقبل مثل هذا الكلام، أو الرغبة فى الحوار حوله بعد انتهاء المحاضرة فى كلية اللغات الأجنبية.
الصينيون يريدون أن يطلوا على ما يحدث فى الشرق الأوسط، وأن يستمعوا عن قرب ويناقشوا بعمق رؤية الآخرين لهم.
تجدر ـ هنا ـ الإشارة إلى ثلاثة أمور رئيسية.
الأول ـ مدى تقدم مستوى الدراسات العربية فى جامعة «بكين»، وأساتذتها رصيد استراتيجى لصناعة القرار الصينى فى الشرق الأوسط وليسوا كما على الهامش.
والثانى ـ أن كل من يعمل فى الدراسات العربية من العميد إلى أحدث طالب يحمل اسما عربيا مستقى من الصينية ـ التى هى لغة رموز ومعان، لا يخاطب فى قاعات الدرس وردهات الكلية إلا به مثل «أمين» و«عثمان» و«عامر» و«شاهين» و«جواد» و«منصور» و«ياقوت»، وهذه من طبيعة التقاليد الصينية التى تطلب التماهى المقصود مع الثقافات الأخرى حتى يمكن استيعاب روحها وجوهرها.
والثالث ـ يكشف حجم التقصير، الذى ارتكبناه بحق أنفسنا عندما انسحبنا من الشرق الأقصى والتحالفات معه فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد».
فى مكتبة المطار توافرت على الأقل خمسة كتب إسرائيلية، بعضها مترجم بالإنجليزية وبعضها الآخر للصينية، بينما غابت تماما أى كتب عربية.
وكانت تلك مسئوليتنا لا مسئولية غيرنا فى إهدار إرث التاريخ، الذى عرف الصينيون كيف يصونوه ويدفعونه بالتصحيح والتراكم إلى آفاق المستقبل المفتوحة.