من الأولويات الواجبة للنمو والتنمية فى مصر
سامح عبدالله العلايلى
آخر تحديث:
الأحد 3 ديسمبر 2017 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
فى أعقاب التغييرات الكبيرة التى حدثت فى مصر خلال بضعة أعوام الماضية، التى كان من نتائجها أن أظهرت على الملأ المواجع المتأصلة والمتراكمة عبر عقود مصر المنهكة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، إلى حد الاعتراف الرسمى مؤخرا بأننا أصبحنا نعيش فى شبه دولة.
فى مواجهة تلك الأوضاع تبنت السلطات الجديدة الحاكمة فى مصر منهجا وحيدا سياسيا واقتصاديا للنمو والتنمية، اعتقدت مُنفردة أنه الأصلح لانتشال مصر من كبوتها، ذلك دون استعراض أو التعرف على آراء وبدائل أخرى فى هذا الشأن قد تكون أفضل لتحقيق الأهداف المرجوة بطرق مرُشدة أكثر موضوعية وأقل كُلفة وأعباء، مثلما حدث للآخرين الذين مروا بأوضاع مشابهة وأحيانا أكثر قوة وإيلاما.. حيث نجحوا بمجهود جماعى دون هرولة فى الصعود إلى العلا ودون تحميل الأجيال الصاعدة أعباء كبيرة هم فى غنى عنها.
إن البداية كان يجب أن تكون فى تحديد أُمهات القضايا التى يُعانى منها الوطن والأسباب العميقة التى أدت إلى تجذرها بهذا الشكل أو ذاك لمعالجتها على قدر عمقها، لأنه بدون معالجة الأسباب علاجا صحيحا فإن وسائل المعالجة ستبقى هامشية ومُسكنة مرحليا لتعود بعدها للظهور مرة أخرى بصورة أكثر توحشا وقسوة وإيلاما.
***
أولى هذه القضايا هى قضية البطالة بمعناها الواسع.. التى هى بطالة مجتمع فى أغلبه، وليس فقط بطالة عشرات الملايين من الباحثين عن الرزق الحلال، الذين يفتقرون إلى المهارات المهنية اللازمة لتيسير حُصولهم على فرص مستديمة للحياة الكريمة المستقرة الآمنة، إنما أيضا مَن يعمل مُؤقتا مِن آن لآخر فى أمور هامشية، أو مَن يبدو كأنه يعمل ولكنه لا يُنتج شيئا، مثل جيوش العاملين فى الجهاز الإدارى أبناء وأحفاد أجيال من العاملين الذين أقنعتهم السلطات الحاكمة منذ عقود بأنها ستوفر لهم كل شيء العمل والسكن والتعليم والصحة، وهو أمر لم يحدث، مما أدى إلى تحول ذلك الجهاز الإدارى الديناصورى المتدخل فى جميع شئون حياتنا ومعاملاتها المتعددة، إلى كيان محدود الكفاءة بطىء الحركة مُعوق لمصالح الناس، يشوبه الفساد، كما ساد اعتقاد بأن من يعمل مَثله كمن لا يعمل وانصاع العاملون فى صمت واستساغوا هذه الأوضاع، يبلغ عدد هؤلاء طبقا للإحصاء الأخير 5.7 مليون موظف وعامل.
يُضاف أيضا إلى منظومة البطالة العامة آلاف وحدات الإنتاج المُعطلة لأسباب خارجة عن إرادتها، التى لم تجد الدعم الرسمى اللازم لإنعاشها وإعادتها إلى دورة الإنتاج ومساعدتها على النهوض من عثرتها.
هذه القضية كان يجب أن تجىء على أعلى سلم الأولويات، وأن يُخصص لها من العقول الاستثنائية القيادية والاستثمارات الكافية اللازمة لمعالجتها فى آجال آنية وتالية، لأن عدم مُعالجتها بأسلوب صحيح يُؤدى إلى تراجع إضافى فى مرتبة المجتمع فى سباق المجتمعات النامية المتنافسة فى ظل هذا العالم الجديد المُخيف الذى يلفظ المتكاسلين بلا رحمة.
إن معالجة أمر تأهيل العامل البشرى لمواجهة عالم اليوم وغدا، هو التحدى الرئيسى الذى يجب مواجهته فورا ودون مواربة بالفكر والشجاعة اللازمين مهما تكلف الأمر ومهما طال زمن المعالجة إذا كنا نريد لهذه الأمة أن تنهض من سباتها.
إلا أنه كما هو معروف فإن معالجة هذه القضية المحورية فى كيان الوطن كأحد الأهداف الواجبة فى الاستراتيجية العامة لا تُؤتى ثمارها ونتائجها بالسرعة التى تتطلع إليها السلطة، لذلك فقد ظهر هناك من يُروج لفكرة عدم الانغماس فى معالجة قضايا بطيئة النواتج ومن الأفضل التركيز على إنجازات مادية سريعة، تبدو نتائجها ظاهرة فى أجل قصير تستهدف إنعاش المجتمع والإيحاء له بأن هناك تقدما ملموسا فى تنفيذ خطط النمو والإصلاح، لهذا خُصصت لها أنهار الأموال لإنهاء إنجازات مُتعجلة لم تَحظ بدراسات جدوى مُسبقة اجتماعية اقتصادية بيئية توافق عليها أطياف المجتمع وصفوته.
هنا لا يجب الإقلال من قيمة بعض المجهودات الظاهرة مثل تحسين شبكات الطرق، إلا أنه يَنقصها أنها لم تجئ كأحد مُخرجات مخططات عمرانية، كما أن ما تم تنفيذه يحتاج إلى مراجعة وصيانة دورية لمعالجة العيوب الإنشائية أو الفنية التى بدأت فى الظهور بالفعل، كذلك عدم ترك المهملات تتراكم على جوانب الطرق.
***
من الموضوعات الهامة أيضا تلك التى تَعشم منها الجميع خيرا، هو مشروع تنمية محور قناة السويس الذى يتولى دراسته أحد بيوت الخبرة القديرة، وكان التفاؤل مُضاعفا عندما تولى قيادة هذا المشروع التنموى المستقبلى الدكتور أحمد درويش، أحد كبار الخبراء المشهور لهم بالكفاءة، إلا أنه للأسف فقد الرجل موقعه فى لحظة مُفاجئة دون إبداء أسباب، مثل هذه التغيرات المفاجئة تستحق تفسيرات شفافة وأسبابا منطقية يقبلها عقل المجتمع لإقناعه بجدوى هذا التغيير المبهم.
ثانى أمهات القضايا التى تُعانى منها مصر، هى قضية التكدس الاستيطانى الهائل، وهى قضية لها وجهان.. الفوضى العمرانية والعشوائية، الفوضى نشأت من أسلوب الإدارة المحلية للعمران.. وتَغاضيها عن مُختلف أنواع الخروقات لأبسط قواعده، إما عن جهل وعدم قدرة وكفاءة وإما عن فساد، النتيجة الحتمية التى وصلنا إليها بعد سنوات من إدارة العمران على هذا المنوال أن تداخلت مكوناته فى بعضها البعض لمختلف أنواع الاستعمالات السكنية والتجارية والحرفية وغيرها.. وزادت أحجام وارتفاعات المنشآت، وبالتالى كثافات استخدامها بدرجة تعوق قُدرة البنية الأساسية على التحمل، وخاصة شبكات الحركة التى هى شرايين الحياة للجميع، ولم تكترث الإدارة المحلية بتطبيق الكود المصرى المُحدِدِ لأعداد أماكن انتظار السيارات الكافية فى المنشآت، وبذلك اضطر حائزو السيارات إلى استخدام الطرقات والأرصفة عشوائيا لانتظارها، واختلط بذلك الحابل بالنابل ووصلنا إلى أوضاع همجية غير مقبولة على الإطلاق بعد أن اختنقت سيولة الحركة للمشاة والآليات والطوارئ، إلى جانب تفشى القاذورات فى جميع الأنحاء والتلوث الصوتى الناتج من الاستعمال المفرط لمكبرات الصوت فى المحال والمساجد وتشويه التراث العمرانى.. إلى آخره، وبذلك نجحت الإدارة المحلية فى تحويل حياتنا إلى عذاب شديد.
***
أما الوجه الآخر من القضية فهو عشوائيات العمران.. سواء من جانب اتساع انتشارها الجغرافى الهائل فى عموم الأراضى المصرية.. الحضر والريف والبوادى، أو من جانب أحجام بعضها المخيف، حيث استوطن الأهالى فى شبه دويلات صغيرة تعيش خارج نطاق العُرف والقانون والسيطرة، من بينها نحو ثمانين منطقة عشوائية بالقاهرة بمفردها، وعلى سبيل المثال هناك ثلاثة مناطق منها يبلغ عدد سكان كل منها قرابة المليون نسمة.. وهى عزبة خير الله وعزبة الهجانة ومنشية ناصر، وهو حجم مماثل لمدن متوسطة فى بلاد أخرى كثيرة، ذلك خلاف عدد لا يُحصى من الجيوب العشوائية المتناثرة فى جميع الأرجاء.
جذور هذه القضية ترسخت تدريجيا على مدى عقود مع نزوح جماعى للبشر فى حركة هجرة من المناطق المُهمشة والمُعدَمة إلى حيث مناطق أخرى تتوقع أن تجد بها رزقا وفرصا أفضل للحياة، فى نطاق المراكز الحضرية والريفية، وبمرور الوقت وصلت أعداد المناطق العشوائية فى مصر إلى الآلاف توغلت فى جميع الأنحاء يستوطن بها عشرات الملايين من البشر، لقد فوجئت السلطة والمجتمع بعد أن استفحل الأمر بأن العمران المصرى انقسم إلى جزأين منفصلين غير متجانسين يتربص كل منهما بالآخر، وهو أمر يُشكل شرخا خطيرا فى البناء المجتمعى للوطن ستكون له عواقب وخيمة على مستقبله إذا لم يتم علاجه فى عمقه علاجا مستنيرا يرتقى بجودة الحياة فى التجمعات المهمشة الموردة للهجرة العشوائية، ويوفر لها مصادر رزق (وليس وظائف) لجموع العاطلين بعد تأهيلهم لتمكينهم من تكوين مجموعات عمل مُنتجة فى مشروعات حرفية ومتناهية الصغر وصغيرة، بدعم من السلطة والمجتمع المدنى والمؤسسات المصرفية والخاصة..
والآن هل هناك يا ترى أمل فى مواجهة هاتين القضيتين بمعالجات حقيقية فى العمق، أم سنكتفى بمعالجات شكلية لا تُسمن ولا تُغنى من جوع.