عيد شكر إبادة السكان الأصليين
يحيى عبدالمبدي محمد
آخر تحديث:
الأحد 3 ديسمبر 2023 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
تلقيت منذ أيام دعوة للمشاركة فى حفل عشاء بمناسبة «عيد الشكر»، وهذه ليست المرة الأولى التى أتلقى فيها مثل هذه الدعوات، فقد كنت شخصيا أحتفل فى الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المناسبة مع الأهل والأصدقاء باعتبارها مناسبة اجتماعية ليس أكثر، خاصة كونها عطلة طويلة تمتد من ليلة الخميس حتى صباح الإثنين. وعادة ما يسافر خلالها الأفراد عبر الولايات ويتجمعون فى بيت الأسرة للاحتفال بها مع الأهل والأقارب لتكون أهم عطلة فى السنة بعد أعياد الميلاد. لكن توقيت المناسبة هذا العام جاء فى واقع مختلف عن أى عام آخر، فسقوط الثقافة الغربية فى اختبار الإنسانية فى غزة، والتهافت الواضح لقيمها ومبادئها خلال الأسابيع الأخيرة فتح المجال واسعا للكثيرين لنقد الثقافة الغربية وسردياتها، وأنا منهم. ولا يعنى ذلك أننى كنت قبل ذلك تابعا منساقا خلف الثقافة والمركزية الغربية، أو قابلا مستسلما لقيم حداثتها دون نقد أو شك، ولكن هذه القراءة الناقدة كانت دائما فى ظل قناعة عامة بأن الغرب وثقافته من أكثر الثقافات المعاصرة احتراما للحريات، وحقوق الإنسان، وقيم الديمقراطية.
• • •
رفضت دعوة «عيد الشكر» هذا العام بسرعة دون تفكير أو تردد، فقد تشكّل لدىّ يقين أن قيم الثقافة الغربية فى معظمها التى ارتبطت بها، ومارستها منذ انتقالى للولايات المتحدة، والعمل فى جامعاتها قبل عقدين من الزمن، باتت موضع شك ومحل جدل، وتحتاج بالتأكيد إلى نقد ومراجعة.
لم أكن لأنتبه فجأة للعلاقة بين عيد الشكر والإبادة الجماعية للسكان الأصليين فى أمريكا الشمالية، فقد قرأت فى الماضى كتبا ومقالات تناولت تلك الأحداث، ولكن لم أرغب فى أن أتعامل مع مناسبة اجتماعية بمقاربة تفكيكية، أو أن أبالغ فى نقد الرواية السائدة. يبدو أن غضبى وحزنى، وخيبة أملى من موقف معظم الغربيين؛ حكومات ومؤسسات وأفرادا من حرب الإبادة التى تدور فى غزة، جعلنى أتأمل كيف أن الروايات والواقع يزوّران أمام أعيننا، فما بالنا بالتاريخ الذى لم نشهد عليه. فمازال عيد الشكر رمزا للتعايش السلمى المشترك بين المستعمر وأصحاب الأرض، وما زال تمثال كريستوفر كولومبوس قائما، وما زال الاحتفال برسو سفنه على الساحل الشرقى «للعالم الجديد» عطلة رسمية فى الولايات المتحدة، رغم كل المذابح الدموية، وعمليات النهب والسرقة التى قام بها.
السردية التى تقدمها الولايات الأمريكية الناشئة فى ذلك الوقت لعيد الشكر ترسخت فى العقل الجمعى لمواطنى ومواطنات الولايات المتحدة من خلال لوحة أيقونية رسمت عام 1914 لفنانة تدعى (جِنى براونسكومب) تخليدا لذكرى أول عيد شكر فى عام 1630 فى مستعمرة بليموث على الساحل الشرقى الأمريكى، وقد أصبحت هذه الصورة بمرور الوقت من معالم الاحتفال بهذه المناسبة.
اللوحة غاية فى الجمال الفنى والإبداع، ولكنها فى الوقت ذاته غاية فى الكذب والخداع والمغالطة التاريخية. فقد قدمت صورة إنسانية مثالية لمجموعة من المهاجرين البيض المتدينين (المعروفين فى الثقافة الغربية بالحُجاج) يجلسون على مائدة كبيرة بصحبة أطفالهم السعداء الذين ينعمون فى الصورة بالصحة والأمن والسعادة، يشكرون الرب على نعمة الحصاد، وتبرز اللوحة الطبيعة الريفية الخلابة، والألوان الزاهية، ولكن الأهم من ذلك كله وجود ممثلين للسكان الأصليين على المائدة فى يمين الصورة يشاركون المهاجرين الوليمة، والشكر للقدر الذى أرسل إليهم هؤلاء المهاجرين شركاء الوطن، شَبَه الملائكة فى صفائهم. ومن يدقق فى اللوحة يجد أن ثلاثة من قادة السكان الأصليين فقط يجلسون على طاولة الطعام، والبقية يجلسون على الأرض خاضعين مهزومين فى أقصى يمين اللوحة. والحقيقة أن اللوحة المتخيلة من قبل الرسامة الأمريكية أكثر إبداعا وتعبيرا من أى وصف أو كلام.
• • •
الأسطورة التى تقوم عليها الرواية الأمريكية لعيد الشكر كما تذكر الصحفية (كلير بوغس) فى مقال بديع يمزج بين الأسلوب الصحفى والأكاديمى نُشر فى مجلة متاحف سميثونيان عام 2019، هى أن الهنود الودودين، الذين لا تحددهم القبيلة، يرحبون بالحجاج إلى أمريكا، ويعلمونهم كيفية العيش فى هذا المكان الجديد، ويجلسون لتناول العشاء معهم ثم يختفون. إنهم يسلمون أمريكا إلى البيض حتى يتمكنوا من إنشاء أمة عظيمة مكرسة للحرية، والفرص، والمسيحية ليستفيد منها بقية العالم. هذه هى القصة، إنها تدور حول استسلام السكان الأصليين للاستعمار. إنه أمر غير دموى، وفى نواحٍ عديدة امتداد لأيديولوجية القدر الواضح.
تشرح لنا كلير فى المقال نفسه كيف أصبح العشاء الكبير (الوليمة) النقطة المحورية فى عطلة عيد الشكر الحديثة قائلة: إن الشعب الإنجليزى فى المستعمرات الجديدة كان يحتفل بعيد الشكر دون ولائم، بل كان يتضمن الصوم والصلاة والتضرع إلى الرب. ولكن فى عام 1769، شعرت مجموعة من أحفاد الحجاج الذين عاشوا فى بليموث أن سلطتهم الثقافية تتراجع حيث أصبحت نيو إنجلاند (تقع فى شمال شرق الولايات المتحدة) أقل أهمية داخل المستعمرات والجمهورية المبكرة، وأرادوا تعزيز مكانتهم. لذلك بدأوا فى زرع بذور فكرة أن الحجاج هم آباء أمريكا ومؤسسوها.
وما جعل القصة حقيقية وفقا لكلير هو أن المنشور الذى ذكر ذلك العشاء نشره القس ألكسندر يونج قائلا إنه هذا كان أول عيد شكر، وبذلك أصبحت الفكرة مقبولة على نطاق واسع، مما جعل الرئيس الأمريكى أبراهام لنكولن يعلنها عطلة خلال الحرب الأهلية لتعزيز الوحدة.
لقد اكتسبت فكرة عيد الشكر ورمزيتها شعبية كبيرة فى أواخر القرن التاسع عشر كما تقول كلير، عندما ظهر قدر هائل من القلق والإثارة بشأن الهجرة. كان البروتوستانت البيض فى الولايات المتحدة غير راضين عن تدفق الكاثوليك واليهود الأوروبيين، وأرادوا تأكيد سلطتهم الثقافية على هؤلاء القادمين الجدد، وذلك بتأكيد دورهم القيادى فى نشأة الوطن الجديد.
وفى العام الذى نشرت فيه كلير بوجس مقالها، نشر الكاتب تشارلز بلو مقالا صادما فى صحيفة نيويورك تايمز بعنوان «التاريخ المفزع لعيد الشكر: قبل أن تملأ صحنك تذكر من فضلك سبب الاحتفال بهذا اليوم». دحض فيه رواية أن يكون الاحتفال بعيد الشكر هو ما ورد فى لوحة الرسامة جِنى براونسكومب احتفالا بالتعايش المشترك، ولكن سبب الاحتفال يرجع إلى عام 1637 عندما أحرق المهاجرون البيض قرية وامبانواغ للسكان الأصليين وقتلوا 500 رجل وامرأة وطفل. وبعد المذبحة وفقا لتشارلز كتب وليام برادفورد، حاكم مستعمرة بليموث، إنه على مدار المائة عام التالية، كان كل يوم عيد شكر يرسمه الحاكم تكريما للنصر الدموى، شاكرا الرب على الانتصار فى المعركة.
• • •
إن الرواية السائدة عن أصل عيد الشكر عبارة عن أسطورة متخيلة مليئة بالمغالطات التاريخية، وهو ما أكده ديفيد سيلفرمان فى كتابه الذى نشرته دار بلومزبيرى عام 2020 بعنوان «هذه الأرض أرضهم» ويؤكد سلفرمان أن العلاقة بين المستعمرين الإنجليز الذين هاجروا إلى الساحل الشرقى للولايات المتحدة (حاليا) ابتداء من عام 1620، لم تكن ودية مع السكان الأصليين على الإطلاق، بل استغلوا مواردهم، واحتلوا أراضيهم، ونقلوا إليهم أمراضا (غالبا الطاعون) حملوها معهم من أوروبا. لم يكن وصول المهاجرين البيض إلى مناطق السكان الأصليين عيدا أبدا للشكر، ولكن كان يوم حداد وحزن لشعب قبيلة وامبانواغ التى حلت محلها لاحقا مستعمرة بليموث الغربية ومنطقة نيو إنجلاند.
وتشارك تشارلز بلو فى تفنيده للسردية السائدة إدريان كنى أستاذة الدراسات الأمريكية والإثنية فى جامعة بروان ويبدو أن عائلتها من الناجين من إبادة السكان الأصليين حيث تعود أصولها إلى قبيلة تشركى (أو كما ننطقها بالعربية شروكى) التى كانت تقطن الشرق الأمريكى. وتقوم كنى مع آخرين على مشروع وثائقى يركز على تسجيل الرواية الحقيقية لما حدث فى عيد الشكر.
ويظل السؤال للفنانة الموهوبة التى زورت التاريخ فى لوحتها الخالدة وغيرها ممن روجوا لسردية التعايش المشترك هو: أين ذهب هؤلاء السكان الأصليون بعد حفل الاستقبال والمأدبة العظيمة التى شاركوا فيها الغزاة؟ ماذا حدث لملايين السكان الأصليين الذين قامت أسطورة عيد الشكر على أساس التوافق والود والسلام؟ لم تكن اللوحة والسردية إلا مجرد محاولة لتبييض جبهة التاريخ الإجرامى الذى أباد بأبشع الصور ملايين البشر من السكان الأصليين، وأنهى تاريخهم. لقد أجبر مئات الآلاف من السكان الأصليين منذ رسو سفن الأوروبيين إلى شواطئ «العالم الجديد» على التهجير والطرد من قراهم وبيوتهم فى اتجاه الغرب، حتى وصلت حرب الإبادة ذروتها فى منتصف القرن التاسع عشر. وكان مصير السكان الأصليين الإبادة إلا قليل منهم عاشوا فى معازل ومحميات متناثرة فى ولايات الغرب الأوسط وكأنها متاحف مكشوفة لكائنات شبه منقرضة.
هكذا نشأت أجيال متعاقبة من الأمريكيين، بيضا وسودا ومهاجرين، على هذه الصورة المثالية للتعايش المشترك ونهاية الصراع بين المستعمر الأبيض وصاحب الأرض الأصلى بقبول السكان الأصليين واقع الاحتلال وتفوق الرجل الأبيض. وفى كل عام فى الثلث الأخير من شهر نوفمبر تجلس الأسر الأمريكية على مائدة ترمز لمائدة لوحة عام 1914 يتوسطها ديك حبش (رومى/ تركى) كبير، وما لذ وطاب من الطعام. صحيح أن العيد أصبح بمرور الوقت مناسبة اجتماعية لتجمع الأسر بعيدا عن تمثلاته السياسية والتاريخية والدينية، ولكن رمزية المناسبة ودلالة السردية ما زالت راسخة فى الوعى الأمريكى.
إن الصورة المثالية المتخيلة التى فرضها المنتصر الأبيض عن عيد الشكر فى حقيقة الأمر محض افتراء وكذب استعمارى وقح. إن الاحتفال بعيد الشكر، رغم تغير الزمان والسياق، بمثابة خيانة لأرواح ملايين السكان الأصليين الذين هُجروا وأخرجوا من ديارهم، وأبيدوا على أرض الحريات، وقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. ناهينا عن المظاهر الاستهلاكية التافهة التى ترافق هذا الاحتفال مثل خصومات «الجمعة السوداء» بمراكز التسوق، ولذا فقد قررت على المستوى الشخصى ألا أحتفل بأى مناسبة أصولها استعمارية استعلائية أو عنصرية، خاصة وأن التجربة الراهنة تؤكد أن هذه الروح الاستعمارية والشعور بالتفوق ما زالت حية فى المجتمعات الغربية.
• • •
فى الختام لا أعلم إلى أى حد يؤثر تشابه التجارب الاستعمارية وممارسة التطهير العرقى والإبادة الجماعية التى قام بها المهاجرون الأوروبيون فى الولايات المتحدة وكندا، وأمريكا الجنوبية، وأستراليا وغيرها فى حق السكان الأصليين وأصحاب الأرض، فى قبول أحفادهم لما تقوم به دولة الاحتلال فى حق الشعب الفلسطينى منذ النكبة وحتى يومنا هذا.