التعاونيات النسوية تعزز الصمود أمام التحديات الاقتصادية والبيئية

نصاف براهمي
نصاف براهمي

آخر تحديث: الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 - 6:45 م بتوقيت القاهرة

 ظهر الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى لمواجهة الأزمات الاقتصادية الخانقة التى تعيشها المنطقة العربية، وتعتبر التعاونيات أهم ركائز هذا الاقتصاد، والتعاونية حسب تعريف منظمة العمل الدولية هى «جمعية مستقلة مؤلفة من أشخاص اتحدوا معا طواعية لتحقيق حاجاتهم وتطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة عن طريق مؤسسة مملوكة جماعيا ويشرف عليها ديمقراطيا».

فى الواقع، تُعدّ التعاونيات من المنشآت التى لا تهدف بشكل أساسى إلى كسب الأرباح بل إلى تحقيق حاجات الأعضاء وتطلعاتهم. يمتلك أعضاء التعاونية منشآتهم من خلال أسهم التعاونية، ويشرفون على هذه المنشأة عبر آليات ديمقراطية. وأخيرًا يُعتبر الأعضاء المستفيدين الأساسيين من خدمات التعاونية.

تمتلك النساء العديد من المهارات والمعارف التقليدية المرتبطة بالأنشطة التعاونية، مثل صناعة الحلويات والنسيج والحياكة وإعداد بعض المأكولات التقليدية الخاصة ببعض المناطق التى ينتمين إليها، وهى معارف ومهارات اكتسبناها بفضل التنشئة الاجتماعية وبفضل التعاونيات قمن باستغلالها للحصول على مدخول يساعدهن فى مواجهة صعوبات الحياة.

• • •

تتأكد اللامساواة فى مستويات متعددة بين الرجال والنساء فى المنطقة العربية ولهذا تظهر مبادرات محلية تقودها النساء من أجل التمتع العادل بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأساسية مثلما بينت الكاتبة منجية هادفى فى ورقة حول النساء والاقتصاد البديل: الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى نموذجا. ومن هنا يطرح الاقتصاد التضامنى نفسه بديلا عادلا بالنسبة للنساء إذ بإمكانه إنهاء أشكال عدة للاستغلال الاقتصادى والإقصاء الناتج عن اقتصاد السوق.

بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية تواجه منطقتنا اليوم ــ مثل كل العالم ــ أزمات مناخية وتعتبر المنطقة العربية من بين المناطق الأكثر تأثرا بالتغير المناخى إذ أصبحت دول عدة تعانى من موجات حرارة متواترة وتزايدت مواسم الجفاف وشهدت بلدان عدة فيضانات وسيولا مثل فيضان درنة فى ليبيا السنة الماضية أو فى الخريف الحالى فى المغرب.

يساهم الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى فى وصول عادل إلى الموارد البيئية وله دور أساسى فى تحقيق التنمية المستدامة، فبفضل الاعتماد على التجارة المحلية من خلال التعاونيات الزراعية المحلية ــ على سبيل المثال ــ يحقق الاستدامة لأنها تقدم حلولا بديلة للمشاكل البيئية من خلال إعادة التدوير والطاقة المتجددة والإنتاج العضوى للسلع ومن خلال الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى يتحسن وصول المجتمعات المحلية إلى الموارد البيئية وتعمل على نطاق ضيق ما يحد من المخاطر البيئية وتنتج سلعا وبضائع تستفيد منها المجتمعات المحلية ما يسهل عملية التوزيع العادل.

• • •

على سبيل المثال، فى المنطقة العربية تعانى قطاعات عدّة فى المجتمع التونسى من التهميش والبطالة والإهمال. من هنا، جاءت فكرة التعاونيات النسوية كسبيل لتأمين دخل بسيط أو مساهم فى مصاريف العائلة، بالإضافة إلى ترسيخ فكرة «التعاون» المجتمعية التى لطالما شكّلت نهجًا تعاونيًا طبيعيًا بين مكوّنات المجتمع التونسى. تعانى القطاعات الحيويّة من بطالة كبيرة تطال الفئات الشابة والنساء على وجه الخصوص، فيجدون صعوبة كبيرة فى الوصول إلى فرص عمل مقبولة وكان لا بد من التفكير بمشاريع، كمجمع سجنانية، لخلق فرص عمل تستطيع النساء الاستفادة منها، فكانت فكرة أن تبدأ النساء المشاركة انطلاقًا من التعاونيات فى القرية أو المنطقة السكنية، من دون التركيز بالضرورة على تحقيق الأرباح، إنّما على النهج التعاونى والتشاركية فى استغلال الثروات المحلية الطبيعية.

تأسس مجمع المصالح الاقتصادية «سجنانية»، سنة 2012، فى معتمدية سجنان شمال البلاد التونسية، وهو تجمع لحوالى 100 حرفية مختصة فى صناعة الأوانى والعرائس والتحف من الفخار (الطين المحمى فى النار)، وقد استلهمت الحرفيات عملهن ــ أساسا ــ من تراث ثقافى أمازيغى منتشر فى المنطقة وتم تناقله عبر الأجيال وتوارثته النساء من خلال أمهاتهن وجداتهن. فنجد اليوم من نفس العائلة الجدة والأم والحفيدة يشتغلن فى صنع الفخار فى المجمع وتم إنشاء المجمع أساسا بعد انتشار الفكر السلفى فى المنطقة بعد الثورة التونسية وفتح المجال أمام الخيمات الدعوية للسلفيين وبروز تيارات سياسية تتبنى هذا الفكر وقد عرفت سجنان -آنذاك- بإمارة سجنان وقام بعض العناصر السلفية فى عديد المرات بتكسير العرائس التى كانت تصنعها النساء مما اضطرهن إلى إخفاء الملامح وتفاصيل أجساد العرائس فى مرحلة أولى، ولكن مع تواصل التهديد التجأن إلى  التنظم فى مجمع مصالح اقتصادية لتثمين منتجاتهن، وتقول زينب فرحات، منسقة المجمع، إن هذا المشروع كان بطلب من الحرفيات اللاتى أطلقن صيحة فزع بعد أن هاجرت الحرفيات منتجاتهن بسبب بروز إمارة سلفية فى سجنان، سنة 2012، وإقدام منتسبيها على كسر عرائسهن الفخارية لخلفيات عقائدية. وفك العزلة عليها وطنيًّا وحتى عالميًّا، وتكللت جهود عضوات «سجنانية» وبقية حرفيات وفنانات سجنان بإدراج «المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان» ضمن قائمة التراث الثقافى العالمى غير المادى لليونسكو فى 2019.

وقد تم كتابة ورقة بحثية حول هذه التجربة من جانب منتدى البدائل العربى للدراسات فى إطار مشروع الاقتصاد البديل فى المنطقة العربية، حيث أظهر قدرة مجمع سجنانية على أن يكون تحقيق مورد رزق للحرفيات وتحسين ظروف عائلاتهن، فبعد أن كن يبعن الأوانى والتحف الفخارية على الطريق أصبحن يشاركن فى المعارض ويساهمن فى تأسيس الأماكن السياحية، إذ تم إنشاء فروع للمجمع فى مدينتى الحمامات وجربة السياحيتين، وهو تجلى واضح لصمود النساء أمام الأزمات الاجتماعية ــ ولكن أيضا المناخية ــ باعتبار أن المجمع يعتمد فى صناعة الفخار على الطين من المنطقة الجبلية فى سجنان، كما تقوم الحرفيات بتزيين المصنوعات بمادة مستخرجة من نباتات تنمو فى المنطقة، والحرفيات يقمن باستعمال هذه الموارد الطبيعية مع ترشيد الاستهلاك والعمل على استدامة نشاطهن وعدم إلحاق الضرر بالبيئة.

هناك تحديات كبيرة تواجه هذه الجمعية التعاونية تتعلق خاصة بالتسويق واحتداد المنافسة مع منتجات مماثلة أخرى، بالإضافة إلى أن هذه المهنة شاقة وتتطلب مجهودا جسديا من النساء اللاتى يقمن بجمع الطين وتطويعه ليصبح تحفا فنية أو أوانى للاستعمال المنزلى ومن ثم تسويته بالنار. لكن رغم  التحديات فإن هذه الحرفة هى موروث ثقافى توارثته النساء جيلا بعد جيل، وجاء المجمع للمحافظة على هذا الموروث الثقافى حتى لا يندثر، وذلك عبر تشجيع الأجيال الجديدة على تعلم هذه الحرفة والمحافظة عليها، أولاً كموروث ثقافى، وثانيا كمورد رزق. وتنشط معظم الحرفيات ضمن «مجمع سجنانية» الذى سُمّى نسبة لهن، وربما لم يكن لـ«فخار سجنان» أن يعانق العالمية لولا هذا المجمع الذى أخذ على عاتقه مهمة تكوين الحرفيات الشابات والترويج لمنتجاتهن داخل تونس، وخارجها.

باحثة بمنتدى البدائل العربى للدراسات، بيروت

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved