مثلث الرحمات حول مصر
عبد العظيم حماد
آخر تحديث:
الخميس 4 يناير 2018 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
كانت زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الأخيرة للسودان ــ ضمن جولة إفريقية ــ سببا فى تجدد الشعور بالمواجع لدى دوائر مصرية عديدة، فى مقدمتها بالطبع مواجعنا فى حوض النيل، والبحر الأحمر، وباب المندب وبحر العرب.
كعادتنا، اتخذ التعبير عن هذا الشعور بالألم شكل الهجوم الإعلامى على كل من أردوغان، ومضيفه السودانى عمر البشير، فى الأغلب الأعم، ثم تطور هذا الهجوم الكلامى إلى شرح أبعاد مخطط لحصار مصر، يقولون إن تركيا وقطر تنفذانه لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، أما لماذا تريد الولايات المتحدة محاصرة مصر؟، فإنهم يقولون أيضا إن هذا عقاب على التحرك المصرى «لتعرية» إدارة ترامب فى الأمم المتحدة بسبب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وكعادتهم لا يريد هؤلاء التوقف برهة أمام حقيقة أن تركيا أيضا كانت تقود تحركا جماعيا لمؤتمر التعاون الإسلامى ضد قرار ترامب، فى قمة إستانبول للدول أعضاء المؤتمر، وفى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن ثم فقد كانت هى أحق بالعقاب الأمريكى من مصر، لكنهم إن اعترفوا بهذه الحقيقة، لن يصلوا إلى النتيجة التى يريدون إقناعنا بها وهى ألا يعلوا صوت (طيلة الأشهر الخمسة الخطيرة القادمة) فوق صوت معركة إعادة انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى، الرجل الذى عرى الولايات المتحدة الأمريكية!!!
لندع هذه الرطانة المعهودة لزيادة الشعبية على أساس العداء من الولايات المتحدة أو لها جانبا، ولنتناول مسألة مكانة مصر الإقليمية، وعلاقاتها ومصالحها فى المنطقة بجدية أكثر، فإذا كان من حق مصر، بل ومن واجبها أن تقلق من أى تحركات، أو تحالفات حولها، لا تكون هى طرفا فاعلا بقوة فيها، سواء كانت هذه التحركات تركية أو إسرائيلية أو إيرانية، أو حتى أمريكية أو أوروبية أو صينية، وربما هندية أيضا، فإن الأولى والأجدى ألا يقتصر التعبير عن هذا القلق على الحملات الإعلامية، حتى وإن كان بعضها تصريحات رسمية، فضلا عن ألا تكون هذه الحملات انتقائية، وموظفة لأغراض دعائية.
فى هذه الحالة، ودائما فإن المطلوب من مصر، والضرورى لها هو منهج سياسى متكامل يطور عناصر وأدوات القوة الشاملة داخليا وخارجيا، والبداية هى الفهم الصحيح لسياق الصراعات فى الشرق الأوسط وحوله، دون مبالغة أو مغالطة.
على سبيل المثال، فإن ما حصل عليه أردوغان فى السودان من تحالف سياسى، وتعاون اقتصادى واستئجار جزيرة سواكن هو نقلة نوعية جديدة على رقعة الشطرنج، فى مباراة تشمل المنطقة كلها، وتدور المنافسة فيها بين إسرائيل وتركيا وإيران فى المقام الأول، وذلك استغلالا لسياسة الانكفاء الأمريكى النسبى من الإقليم، مع أدوار تالية للسعودية والإمارات وقطر، ودور بالغ المحدودية لمصر.
وإذا كانت تركيا تتعاون مع إيران فى شمال العراق ضد الأكراد، وفى قطر فى مواجهة الحصار الرباعى عليها، فإن ذلك لا ينفى تنازع المصالح بينهما فى سوريا، وفى عموم المشرق العربى، الذى أدى تفوق النفوذ الإيرانى فيه إلى الحد كثيرا من فاعلية الدور التركى هناك، دون أن ننسى الدور الروسى خصوصا فى سوريا على وجه الخصوص، وكانت إيران، ولازالت متفوقة استراتيجيا ــ كذلك ــ على تركيا فى الجنوب العربى، بامتداد نفوذها إلى اليمن، على مضيق باب المندب، ومشارف القرن الإفريقى.
وليس جديدا القول أن لإسرائيل وجودا عميقا وراسخا فى قرن إفريقيا ومدخل البحر الأحمر، وعلى امتداد الساحل الإفريقى للمحيط الهندى، وصولا إلى رأس الرجاء الصالح، وها هى ذى تشرع لها الأبواب السعودية والخليجية بأوسع وأسرع من خيال بنيامين نتينياهو ذاته!
أيضا ليس جديدا أن لجميع الدول الكبيرة وجود سياسى وعسكرى مكثف فى كل هذه الأماكن، والمعنى أن تركيا كانت هى القوة الإقليمية الوحيدة التى لا تملك موطئ قدم هناك، ومن ثم لم تكن إلا مسألة وقت فقط حتى تتطلع أنظار أردوغان إلى السودان، بعد أن امتلك وجودا عسكريا، وسياسيا كبيرا فى الخليج، بدعوة من قطر.
بالطبع ليس مستبعدا أن يكون الرد على توثيق مصر لعلاقاتها بكل من اليونان وقبرص هو أحد دوافع الرئيس التركى لهذه النقلة السودانية، ولكنه يبقى دافعا ثانويا، أو عرضا جانبيا.
ها نحن قد عدنا إلى دور مصر ومكانتها، وقد قلنا آنفا إن علينا أن نطور عناصر وأدوات القوة الشاملة داخليا وخارجيا، لأنه ليس مقبولا ولا مبررا أن يكون دورنا محدودا أو هامشيا، ومصر أعز وأعرق وأكبر من أن تقنع بدور «سنيد» البطل هنا أو هناك، أو دور العجوز الباكية على شبابها الضائع، كذلك فإن مصالح مصر أوسع من أن تقوم سياستها الخارجية على مبدأ واحد هو الصراع ضد الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسى على وجه العموم.
داخليا المطلوب معروف للكافة، وهو تركيز الاهتمام اقتصاديا على الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، وتركيز الاهتمام سياسيا على إطلاق طاقات المجتمع من خلال التعددية والمشاركة والعمل الأهلى، وكبح الفساد المهدر للموارد والهمم، وتركيز جهود التنمية البشرية على تطوير التعليم، والتأهيل المهنى والرعاية الصحية، وبالمناسبة فعند ذلك نكون قد قطعنا ثلاثة أرباع الشوط على الأقل لهزيمة الإرهاب.
أما خارجيا فقد آن الأوان لتفكيك مثلث الرحمات الذى حشرت مصر نفسها بين أضلاعه وفى زواياه، ونقصد التحرر من البقاء تحت رحمة إثيوبيا فى مياه النيل، وتحت رحمة إخواننا فى السعودية والإمارات (مع كل الامتنان لهم) لسد الفجوة التمويلية الواسعة والمزمنة فى اقتصادنا القومى، وقبل كل ذلك وبعده عدم قبول التفوق الاستراتيجى الإسرائيلى كوضع أبدى مسلم به، اكتفاء بضمان أمريكى لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، لأن ذلك يعنى أن هذه الضمانة الأمريكية هى الأساس فى ضمان الأمن القومى المصرى فى الاتجاه الشرقى، وهناك سابقة عدم التزام أمريكا بالبيان الثلاثى لعام 1950 الصادر بالاشتراك بين واشنطن ولندن وباريس بضمان الحدود القائمة فى الشرق الأوسط فى ذلك التاريخ.
فى هذه النقطة الأخيرة يجب أن يكون مفهوما أننا لا ندعو إلى إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، ولكننا ندعو إلى بذل الجهد اللازم لتحقيق التكافؤ الاستراتيجى، وذلك لكسر الضلع الثالث لمثلث الرحمات حول مصر.
وإذا كان يسهل فهم دواعى الشعور بعدم إلحاح الحاجة لإنهاء الاعتماد التمويلى على السعودية والإمارات، وكذلك دواعى الشعور بعدم إلحاح قضية الأمن القومى فى مواجهة التفوق الإسرائيلى، بما أن المفترض أن هذه أوضاع مؤقتة، وإن تطاول أمدها نسبيا، فليس من المفهوم عدم الشعور بإلحاح قضية مياه النيل، التى إن خسرنا حقوقنا فيها سنخسرها إلى الأبد، وذلك بمواصلة النهج الخاطئ، الذى ورطت مصر نفسها فيه منذ أواخر القرن الماضى، حين قبلت مبدأ إعادة النظر فى توزيع مياه النهر فى مبادرة عنتيبى، وحين شاركت فى المؤتمر الدولى للمياه تحت رعاية البنك الدولى، فى حين أن المبدأ الأصلى والأصيل كان هو رفض تدويل مسألة النيل رفضا نهائيا وباتا، حتى عندما كانت مصر ترزح تحت سلطة الإحتلال البريطانى.
إذن فليكن تغيير المسار الحالى للمفاوضات المصرية الإثيوبية حول سد النهضة هو الخطوة الأولى والعاجلة لتحطيم مثلث الرحمات ذاك، خاصة إذا لم نخدع أنفسنا بالأمانى، وأدركنا أن الجعبة فيها مشروعات لسلسلة من السدود تتلو سد النهضة، ولتكن تلك الخطوة هى البداية فى ثورة مصر على نفسها للخروج من أزمتها التاريخية، أو كما قال مفكرنا الكبير الراحل جمال حمدان: «فليس هذا هو وقت الاعتدال المفرط، والمبالغة فى المحافظة التى تفضل الحلول الوسط، والمساومات الجزئية على الحلول الجذرية، وإنما هذا هو وقت فورة (بالفاء) قوة عظمى تجدد شباب مصر، وتستعيد كرامتها، وتحل أزمتها التاريخية، وإلا فإن أمامها مائة سنة أخرى من الانحدار المتسارع».