مغامرة أردوغان فى المستنقع الليبي
محمد سعد عبدالحفيظ
آخر تحديث:
السبت 4 يناير 2020 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
«الديمقراطية هى مجرد القطار الذى نستقله للوصول إلى الهدف.. المساجد ثكناتنا، المآذن حرابنا، القباب خوذاتنا، والمؤمنون جنودنا»، أدلى الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بهذا التصريح لصحيفة «حريات» التركية عندما كان رئيسا لبلدية إسطنبول عام 1997، وبسببه حكم عليه بالسجن لمدة 10 شهور، ومنعته المحكمة الدستورية من تقلد أى وظائف حكومية أو الترشح فى الانتخابات العامة لأنه «تحدى علمانية الدولة».
بعد انتهاء مدة الاحتجاز والمنع من تقلد الوظائف العامة، تقمص أردوغان شخصية الإصلاحى المؤيد لأوروبا والمنفتح على الغرب والمؤمن بعلمانية الدولة التركية، وما إن تمكن «البراجماتى الإسلامى» الذى أسس على أنقاض حزب «الرفاة» حزبه الجديد «العدالة والتنمية» من حسم 10 استحقاقات متتالية حتى خلع قناعه فظهرت حقيقته «ديكتاتور شعوبى يتسلط ويستبد بشعبه، وعلى استعداد لخوض أى مغامرة لتدعم بقائه فى الحكم إلى آخر نفس».
استخدم فى ذلك كل الموبقات السياسية من التلاعب بالشعارات الدينية والقومية لمغازلة البسطاء إلى تعديل الدستور حتى يتمكن من البقاء فى السلطة بصلاحيات شبه مطلقة، إلى الدخول فى نزاعات ومعارك وصناعة خصوم وأعداء فى الخارج حتى «لا يعلو صوت فوق صوت المعركة».
قرار التدخل العسكرى فى ليبيا الذى أيده قبل يومين البرلمان التركى استجابة لطلب من حكومة رئيس الوزراء الليبى فايز السراج كان آخر مغامرات «العثمانى الجديد»، فالأزمات التى تلاحقه والضغوط التى يتعرض لها فى الداخل والخارج دفعته للهروب إلى الصحراء الليبية.
إقدام أردوغان على تلك الخطوة جاء بعد فشله فى إيجاد حلول للأزمات المالية والاقتصادية والسياسية الخانقة التى تعانى منها بلاده، وفقا لخبراء فى الشأن التركى، «العملة التركية خسرت ما بين (11% و30%) خلال العامين الماضيين، والتضخم وصل إلى ما يزيد عن 25%، ونسبة البطالة فى ارتفاع مطرد بينما ينخفض معدل النمو». وأرجع الخبراء هذا التدهور إلى العجز المفرط فى الحساب الجارى وارتفاع الدين الخارجى وازدياد تسلط أردوغان وأفكاره عن السياسة النقدية لبلاده.
التراجع الاقتصادى الكبير أثر على شعبية أردوغان وحزبه اللذين خسرا أكبر المدن التركية فى الانتخابات المحلية الأخيرة فتمكنت المعارضة من حسم مدينة اسطنبول وانهت 25 عاما من سيطرة إسلاميى «الرفاة» ثم «العدالة والتنمية» عليها. كما خسر الإسلاميون أنقرة وأزمير ما يعنى خسارة أكبر حواضر تركيا.
زاد الطين بله فرض أمريكا عقوبات على تركيا بعد شرائها النظام الصاروخى الروسى «أس ــ 400»، وفى أكتوبر الماضى شنت القوات التركية عملية عسكرية فى شمال سوريا، قتلت فيها مئات المدنيين وشردت عشرات الآلاف من اللاجئين، وارتكبت انتهاكات وجرائم حرب بمشاركة ميليشيات إرهابية، ما عرض أنقرة لعقوبات أمريكية وأوربية أخرى.
داخليا تدهور سجل الحقوق والحريات خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فالرئيس التركى شن عمليات قمع واسعة عقب الانقلاب العسكرى الفاشل فى 2016، وزج بآلاف السياسيين والصحفيين فى السجون، وأجرى تعديلات على الدستور لتمكنه من البقاء فى السلطة وإحكام السيطرة عليها، وفرض حصارا على الصحافة والإعلام فأغلق صحف وأمم أخرى، وجعل من تركيا السجان الأول عالميا للصحفيين، وفقا للجنة الدولية لحماية الصحفيين، التى أعلنت فى تقريرها الأخير أن تركيا تسجن 108 صحفيين.
نالت تلك الإخفاقات من شعبية أردوغان، وانخفضت شعبيته إلى 33% من 41% فى يوليو 2018، وفقا لاستطلاع رأى حديث، وتعرض حزبه لمزيد من الانشقاقات بعد انسحاب 840 ألف عضو فى الأشهر التسعة الأولى سنة 2019، بينهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق على باباجان.
كل ما سبق دفع أردوغان إلى الهروب للمغامرة الليبية، عسى أن يجد فيها مخرجا اقتصاديا بالسيطرة على استثمارات النفط الليبى وإجبار دول شرق المتوسط على إعادة النظر فى اتفاقيات التنقيب عن الغاز، وسياسيا بإلهاء شعبه بالدخول فى حرب قد تحد من الانتقادات التى تلاحقه فى الداخل.
ذهب «العثمان الجديد» إلى ليبيا ظنا منه أنه قد يحقق أهدافه، تصور أنه قادر على تمكين السراج وحكومته من فرض السيطرة على المدن الليبية وإخضاع الأشقاء الليبيين، لا يعلم صاحب تلك المغامرة أن الصحراء الليبية قد تكتب نهايته، فلا طبيعة أرض المعركة فى صالحه ولا التوازنات الإقليمية والدولية ستمكنه من تحقيق مآربه.