من ليما للقاهرة.. حلم الطعام والماء والعدالة
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الإثنين 4 يناير 2021 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
ليما هى عاصمة دولة بيرو الواقعة فى شمال غرب قارة أمريكا اللاتينية. اقترب عدد سكانها من عشرة ملايين نسمة فى عام 2020 وتقع فى وادٍ به ثلاثة أنهار صغيرة فى منطقة تغلب عليها الصحراء وهى محصورة بين سفوح جبال الإنديز والمحيط الهادى. وتعانى من ندرة فى المياه مع زيادة عدد السكان. أسسها المستعمر الأسبانى فرانسيسكو بيسارو فى العام 1535.
فى تلك المدينة البعيدة عنا تعيش سارة الناشطة فى مجال الطعام والتى تعمل فى مجال الزراعة فى المدن أو ما يسمى الزراعة الحضرية. لدى سارة طموح كبير وهو أن تحول عشرين فى المائة من أسقف بيوت مدينتها إلى مزارع بحلول العام 2035 وهى تبدأ يومها كل صباح بمراجعة رؤيتها وما يحتاجه مجتمعها وما يجب عليها أن تقوم به لتحقيق تلك الرؤية. كانت سارة تتوق دائما ومنذ كانت فتاة صغيرة لاستعادة مدينتها لما كانت عليه عندما رآها ووصفها المستعمرون الأسبان الأوائل «مكان يغلب عليه المناظر الطبيعية من الأراضى الزراعية وبساتين الفاكهة والتلال الخضراء ووفرة من الحياة النباتية والحيوانية».
***
منذ كانت صغيرة استخدمت سارة وسائل التواصل الاجتماعى لإيصال رؤيتها لمجتمعها، واستطاعت من خلال منشوراتها التى تتحدث عن الزراعة الحضرية توصيل فكرتها لكل الناس من كل الأعمار، وتوضيح كيف أنها عمل ممتع وجميل، بالإضافة إلى حماسها أن تجمع حولها نصف مليون متابع عندما بلغت العشرين من عمرها. وتستمر سارة بعد أن أصبحت شابة ناضجة فى إلهام الآلاف ليزرعوا ويأكلوا ويتشاركوا الطعام. وساعدها فى ذلك دراستها المتخصصة فى الزراعة بالإضافة إلى منحة خارجية. وأصبحت أكثر ثقة فى أن حلم طفولتها لمدينتها المتجددة التى تبدو أكثر اخضرارا من أعلى يقترب من التحقق.
سارة هى واحدة من السكان الأصليين المزارعين والذين حولوا جزءا من الصحراء المحيطة بالمدينة إلى واحة غناء على عكس المناطق الأخرى فى المدينة التى تحولت إلى مناطق عمرانية مكدسة ومتدهورة. وأصبحت تلك الواحة إحدى أيقونات المدينة ومكان الإلهام الأساسى لها فى طفولتها. وتبنى سارة على العمل الشاق لوالدها لكى تشق طريقها للأمام. وانخرطت أيضا فى برامج حكومية لحصاد الضباب أو استخراج المياه من الهواء الرطب (مناخ المدينة ذو رطوبة نسبية عالية خاصة فى الشتاء بما يسمح بتلك التقنية) والذى يسمح بتوفير المياه الكافية للذين يعيشون فى المساكن المتدهورة فى صحراء ليما بما يوفر لهم وصولا معقولا للمياه الجارية.
من خلال عمل سارة مع العديد من النشطاء والعلماء والمعماريين والفنانين تحاول سارة تحقيق رؤيتها لمدينة ليما بحلول العام 2035 وحتى العام 2050 وتشمل تلك الرؤية التى تستهدف الرفاهية العامة للناس على مجموعة من النقاط الأساسية. أولها أن يكون لكل سكان المدينة وصول آمن للمياه الجارية وأن يتم تأمين موارد المياه ومصادرها للأجيال القادمة أيضا. وثانيها أن تتحول المناطق السكنية المتدهورة فى صحراء المدينة إلى مزارع حضرية متجددة. وثالثها أن تنتشر فى المدينة مراكز الطعام الملاصقة لحدائق المجتمع والمزارعين والتى تسمح أسواقها بتجاوز الفواصل الاجتماعية وإغناء حياة المجتمع من خلال قوة الاجتماع حول الطعام. أما النقطة الرابعة فى تلك الرؤية هى زيادة المساحات الخضراء العامة لستة أمثالها مع نشر الحدائق الإيكولوجية متعددة الوظائف وتحتوى على الأماكن التاريخية التى تحولت إلى جزء من مراكز الطعام. وخامسا أن تحول المزارع الحضرية والمناطق الخضراء العامة ليما إلى واحة زمردية يمكن أن ترى من أعلى كتاج أخضر فى أعلى صحراء أتاكاما. وتستهدف سارة وزملاؤها من خلال تلك الرؤية أن يكون الطعام هو إحدى أهم الوسائل لخلق وحدة اجتماعية والاحتفال بالتنوع وتأكيد أن الإنسان واحد.
***
ما بعد الفقرة الأولى فيما سبق هو ترجمة بتصرف لإحدى الرؤى العشرة التى وصلت للتصفية الثانية من أصل خمسين فريقا تم اختيارهم أولا من بين ألف وثلاثمائة فريق متقدم للمسابقة الدولية التى نظمتها مؤسسة روكفلر الأمريكية لصياغة وطرح رؤى تتعامل مع التحدى الكبير لتوفير الطعام للبشر بحلول العام 2050. اشترك فى صياغة تلك الرؤية مجموعة كبيرة من الباحثين والفنانين والمعماريين والسكان الأصليين فى مركز البطاطس الدولى ومجموعة اليمنتا.
أعجبنى للغاية ما قرأت ليس فقط لأنه تفكير أصيل ومركب أتمنى ولا شك أن نتعلم منه وأن يكون لدينا رؤى تنطلق من واقعنا الملىء بالتحدى والذى به العديد من المحاولات فى إطار الزراعة الحضرية منذ تسعينيات القرن الماضى ولكنها لم تخلق حتى الآن تلك الكتلة الحرجة لإحداث التغيير المطلوب. ربما لغياب رؤية تتبنى التعامل مع التحديات المختلفة التى تواجه الزراعة الحضرية ومنها بالطبع التحدى الاقتصادى.
من أفريقيا جاء اثنان من المختارين العشرة للتصفية النهائية أحدهما فريق من نيروبى بكينيا والآخر فريق من غرب نيجيريا وتمنيت لو كان هناك فريق مصرى فى تلك المسابقة الدولية الهامة. وبالرغم من وجود عدة مبادرات للزراعة الحضرية فى مصر منذ سنوات ليست قليلة ولكننى لم أرَ فى أى منها ما يربط عدة قضايا الماء والسكن والمساواة الاجتماعية معا كما رأيتها فى الرؤية التى تحلم بها سارة وزملاؤها فى ليما. وهى أيضا أقرب لما أقوم به منذ شهور قليلة مع طالباتى وطلابى بدراسة وتجريب يستهدف إدماج إنتاج الغذاء فى مساكننا بالصورة التى يمكنها من أن تحسن من بيوتنا وأيضا تمكن من التعامل بصورة أفضل مع تحدى الماء وأيضا الاستفادة من المخلفات العضوية بدلا من التخلص منها. كما نستهدف أيضا استكشاف كيف يمكن للزراعة الحضرية فى المناطق السكنية أن تعمل على تحسين التنوع البيولوجى لمدننا والتى هى أحد التحديات الهامة للتنمية المستدامة. بالرغم من أننا نعمل فى القاهرة لأننا نستخدم بيوت الطالبات والطلبة كمكان آمن للتجارب ولكننا فى الحقيقة نستهدف كل المدن والمناطق السكنية الأخرى فى مصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة.
الاقتباس:
لدى سارة طموح كبير وهو أن تحول عشرين فى المائة من أسقف بيوت مدينتها إلى مزارع بحلول العام 2035 وهى تبدأ يومها كل صباح بمراجعة رؤيتها وما يحتاجه مجتمعها وما يجب عليها أن تقوم به لتحقيق تلك الرؤية.