ساندرا نشأت.. والشخصية المصرية
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 فبراير 2014 - 5:20 ص
بتوقيت القاهرة
فى الفيلم الأخير الرائع الذى أخرجته ساندرا نشأت عن الاستفتاء على الدستور، تلتقى المخرجة عددا كبيرا من الأشخاص وتسألهم نفس السؤالين: «هل ستذهب إلى الاستفتاء؟»، «وهل ستقول نعم أم لا؟». لاحظت أن جميع الوجوه، للأشخاص الذين يوجه إليهم السؤالان، وبلا استثناء، وجوه جميلة ترتاح إليها العين، سواء كان وجه فلاح فى الثمانين من عمره، أو سيدة حضرية محجبة متحمسة للإصلاح وتعشق الخطابة حتى ليصفق لها من حولها، أو سيدة خمسينية أخرى بيضاء البشرة وذات عينين خجولتين تتهيبان الكاميرا، فلا تنطق بنعم أو لا، بل تكتفى بإيماءة خفيفة بالموافقة مع ابتسامة سريعة، أو ثلاثة أولاد فقراء جالسين على الرصيف، أو طفلين نوبيين فى أسوان.. إلخ.
ولكن فلنؤجل قليلا الكلام عن جمال الفيلم، فهناك شىء آخر مهم، فها هى شابة قبطية تصنع فيلما لا يستغرق أكثر من 12 دقيقة، وتقدم فيه إجابة شافية تماما عن أهم سمات الشخصية المصرية (أو الهوية المصرية باستخدام اللفظ الشائع هذه الأيام)، هذا هو ما فعلته ساندرا نشأت بكاميرا صغيرة ولكن تحركها يد موهوبة وعين شديدة الحساسية، ودون أن تظهر هى فى الفيلم على الإطلاق، ولا تكاد تتبين صوتها.
قررت ساندرا نشأت ألا تصور جزءا كبيرا من الفيلم فى القاهرة أو الإسكندرية، بل خرجت إلى المدن والقرى الأصغر، وأن تستخدم صورة القطار السريع للربط بين مشهد وآخر، ولافتات المرور الزرقاء لتخبرنا بأنها تقوم الآن بالتصوير فى الفيوم أو المنيا أو الإسماعيلية أو طنطا أو أسوان...إلخ. وشخصيات الفيلم نادرا ما يظهرون جالسين بلا عمل، بل يظهر أغلبهم متحركا ويقومون فى الغالب بعمل منتج. رجل عجوز فوق حمار يحمل كمية من الخضراوات، أو فلاحة تحمل كمية كبيرة من الخبز البلدى الخارج لتوه من المخبز، صيادون فى الإسكندرية فى قارب كتبت عليه كلمة (يارب)، أو مجموعة من الشباب النوبيين يلعبون الكوتشينة قائلين إنهم يفعلون ذلك لتجنب الكلام فى السياسة، أو مجموعة أخرى من النوبيين مؤكدين أنهم سيقولون نعم فى الاستفتاء، ثم يغنون بمرح «آليريه آليريه»، أى نعم باللغة النوبية، «دستور آليريه..».
خطرت لساندرا نشأت أيضا فكرة رائعة هى أن تستخدم فى الفيلم تسجيلات قديمة لعبارات صدرت من أربع أو خمس شخصيات مصرية مشهورة ومحبوبة، فيكاد مشاهد الفيلم أن يكتشف شخصياتهم بمجرد سماع أصواتهم، حتى ولو لم يقرأ الاسم المكتوب على الشاشة مقرونا باسم المحافظة التى ولد فيها، فتسمع عبارات قصيرة ليوسف وهبى (من مواليد الفيوم)، ونجيب محفوظ (القاهرة) وهدى سلطان (طنطا)، وجزءا من أغنية لأحمد عدوية (المنيا) فيبتهج المستمع ليس فقط لأنه لم يسمع هذه الأصوات منذ فترة طويلة، ولكن أيضا لأن العبارات المختارة تعبر عن شخصية قائلها كما اعتادها المصريون: يوسف وهبى يتكلم بفخامته المعتادة، ويعبر عن بعض البديهيات وكأنها اكتشاف خطير، فيقول إنه (يؤمن بالمساواة، وبحب الناس بعضهم البعض، واحترام الكبير للصغير، واحترام الصغير للكبير، وضمان كل إنسان لحقوقه)، ونجيب محفوظ يمتدح المصريين بطريقته المألوفة فى المجاملة المحببة، دون أن يتجاوز الحق، فيقول (إن مصر دائما عظيمة، ودائما مجاهدة، وستكون غدا ظافرة بإذن الله).
أثناء التصوير فى الإسكندرية تسمع الأغنية الشهيرة والمحبوبة لسيد درويش (وهو من مواليد الإسكندرية) «أهو دا اللى صار...»، فيقتطف المقطع المؤثر الذى يصف فيه المصريين بقوله: «يا مصر يا أم العجايب، شعبك أصيل والخصم عايب، خلى بالك م الحبايب، هُمّه أنصار القضية»، فيهز المستمع رأسه موافقا على أن مصر هى بالفعل بلد العجائب، ولكنه يتساءل عمن كان يقصده سيد درويش «بالحبايب»، وعما يقصده «بالقضية»، هل «الحبايب» هم هؤلاء الناس البسطاء الذين يظهرون فى فيلم ساندرا نشأت؟ وهل «القضية» هذه المرة هى الثورات الأخيرة والاستفاء على الدستور.. إلخ؟
•••
ليست هناك شخصية واحدة فى الفيلم ثقيلة الظل، أو شخصية واحدة تحب ألا تراها مرة أخرى وأن تطيل النظر إليها، وتود لو أن كاميرا ساندرا نشأت لم تتحرك بهذه السرعة. الأولاد الثلاثة الجالسون على الرصيف بملابس رثة، ووجوهمم مثل ملابسهم تحتاج إلى غسيل، يعتلى وجوههم الخجل الشديد عندما تفاجئهم الكاميرا، وترتسم عليها ابتسامات مشرقة فتبدو الوجوه جميلة حقا. يقول أحدهم ردا على سؤال لساندرا نشأت (دون أن نسمع السؤال) إنه يريد أن يصبح ممثلا، والآخر يتمنى أن يصير ضابطا، فينفجر أحدهم بالضحك، ساخرا، بلاشك، من عدم واقعية الإجابة.
هناك وجوه جميلة أخرى، وان كانت من نوع مختلف. رجل وزوجته تجاوزا الخمسين من العمر، يسيران متلاصقين، وقد زاد التصاق الزوجة بزوجها عندما فاجأتها الكاميرا. وامرأة أخرى أصغر قليلا على وشك ركوب أتوبيس، تقول إنها ستقول نعم فى الاستفتاء بلا أدنى شك، وتبرر ذلك ضاحكة ضحكة لا تخلو من دلع، بأنه ما دام السيسى موافقا على الاستفتاء «فهذا يكفينى!».
قرب بداية الفيلم يظهر فلاح فى أواسط العمر، يركب حمارا ويجرى به، وتحاول ساندرا أن تحصل منه على إجابة عما سيقوله فى الاستفتاء قبل أن يختفى، فتناديه «حاتقول ايه فى الاستفتاء يا حاج؟»، فيلتفت وراءه، وقد تجاوزها ببضع خطوات ويجب «حا أقول»، دون أن يوضح ما سيقوله بالضبط، على طريقة الفلاح المصرى فى الحرص فى الكلام حتى لا يتورط بقول شىء يعود عليه بالضرر. ولكنه عندما تلح عليه ساندرا نشأت بالسؤال: «حاتقول إيه؟» يقول: «نعم طبعا».
الأغلبية الساحقة من الإجابات التى نسمعها فى الفيلم كانت «نعم»، وأحيانا «نعمين» أو «نعم وألف نعم»، أو «نعم ونص»، أو «نعم، وبقلب جامد كمان». وهى تقال أحيانا مقرونة بإعطاء تبريرات مثل أن قول نعم هو الذى سيجعل البلد «تمشى»، و«سيصلح الأحوال»، أو «سيحقق المحبة والوئام بين الجميع» أو لأن (الدكتور) عمرو موسى كان بيسهر فى إعداد الدستور للساعة واحدة صباحا!
أحد الأفندية قال «دستور إيه، إذا كانت البلد متنيلة؟»، ولكن مثل هذا القول نادر. والذى يستمع إلى هذه التبريرات ويرى وجوه قائليها أثناء النطق بها يخطر بباله أن المصرى يجد صعوبة فى أن يقول «لا»، خاصة إذا شعر بأن الذى يوجه إليه السؤال يريد أن يسمع منه قول «نعم»، فيقولها فى العادة «جبرا بخاطره»، أو كأنه يدرك فى قرارة نفسه أن إجابته، سواء كانت بنعم أو لا، لن يكون لها أثر فى حسم الأمور.
قلت إن الشخصيات التى ظهرت فى الفيلم كانت كلها خفيفة الظل، ولكن ربما كان هناك استثناء واحد، هو شخص يرتدى بدلة كاملة وكرافتة، ويتكلم بما يقرب من العربية الفصحى عن «خارطة الطريق». قال إنه أيضا سيقول نعم فى الاستفتاء، ولكن وجهه، بعكس الآخرين، كان متجهما، وكان فى تبريره لقول نعم يبدو وكأنه يقرأ مما ينشر يوميا فى الصحف، أو يكرر ما سمعه فى حوارات التليفزيون. ذكرنى منظر وطريقة كلام هذا الرجل، الذى بدا وكأنه المثقف الوحيد بين الشخصيات التى ظهرت فى الفيلم، بعبارة قالها مرة جورج أورويل معلقا على جملة سخيفة قرأها، إذ قال: «إن هذه الجملة لا يمكن أن تصدر إلا من مثقف!».
•••
الفيلم يستخدم الموسيقى والغناء استخداما فعالا للغاية، فيختار ألحانا سريعة الإيقاع من الأغانى الشائعة والمحبوبة لدى المصريين، أو ألحانا مؤثرة تعزف على الناى والمزمار البلدى بمصاحبة المناظر الريفية. وعندما تظهر صور معبد الكرنك بالأقصر تسمع أغنية شعبية تقول إن مصر «بلد سياح، فيها الأجانب تتفسح». وعندما نمر بمدينة طنطا نسمع أغنية لمحمد طه (وهو من مواليدها) تقول:
انتِ الأصيلة يا مصر وكلنا عارفين
بحق محمد نبينا وعيسى نبى الله
أنا ابن المنوفية وصعيدى
وسيدى كان فلاح وحى على الفلاح..
وعندما تظهر صور خلابة للنيل فى أسوان، أو منظر موج البحر فى الإسكندرية وهو يرتطم بالصخور، نسمع مقطعا آخر من الأغنية يقول «مصر جميلة.. وخليك فاكر».