لا ننكر أننا نشعر دائما بحنين نحو الأشياء القديمة أو التى عايشناها فى مراحل حياتنا الأولى، فمثلاً الآن ومازلت أبحث وأسمع بكل شغف برامج إذاعية كنت مغرماً بها فى فترة الصبا مثل: قال الفيلسوف وغواص فى بحر النغم ومن تسجيلات الهواة وتسجيلات من زمن فات.. إلخ، هذا يرجع بك إلى زمن وحياة أقل حدة من حياتنا الآن (أو هكذا نظن لأن عقلنا البشرى يتناسي الذكريات السيئة فلا نتذكر إلا كل جميل)، وطبعاً جميعنا نحب أن نشاهد أفلام الأبيض والأسود ولا نمل، والروايات القديمة الكلاسيكية معين لا ينضب من ذكريات الطفولة والصبا لذلك يحب الكثيرون الذهاب إلى سور الأزبكية علهم يجدوا هناك كنوزاً، هذا عن الفن والأدب فماذا عن العلم؟ هل يمكننا أن نستفيد شيئاً من كتب علمية قديمة؟
قد يجيب قارئ بالنفى لأن العلم يتقدم وما نجده فى الكتب القديمة قد يكون أصبح فى عداد الخطأ.. هذا صحيح ولكن هناك شيئان لا يجب أن نغفل عنها: أولاً طريقة الكتابة العلمية قديماً كانت فنية أكثر من اللآن ولذلك فهى أسهل فى القراءة وأمتع لأن الناس قديماً (وليس العلماء فقط) كانت تكتب بتأنى أكثر (تأخذ وقتها فى الكتابة كما نقول بالعامية) وهذا نراه فى الكتابة العلمية الموجهة للعامة وللخاصة على حد سواء، لذلك نجد مثلاً مادة فى قسم علوم الحاسبات فى جامعة كورنيل بأمريكا (وهى من الجامعة المتقدمة جداً) مادة بعنوان "لحظات عظيمة فى تاريخ الحاسبات" (Great Moments In Computing) يتدارسون فيه الأبحاث العلمية التى كانت ذات تأثير كبير ومحورى فى مجال الحاسبات وهذا بالطبع معناه أنهم يدرسون أبحاثاً قد تكون نشرت من عدة عقود، وهذا التأنى فى الكتابة عند الأقدمين (وأقصد هنا فى المائة عام الأخيرة ولا نرجع أن نرجع أكثر من ذلك) يجعل الفهم أعمق لأن الكاتب يشرح بتأنى الفكرة وفلسفتها وتطبيقها والقراءة أمتع فى الوقت ذاته.
الشئ الآخر فى الكتابات العلمية القديمة أنها تجعلك ترى بنفسك تطور فكرة معينة وهذا يساعدك على فهم الوضع الحالى واستشراف المستقبل ولذلك ترى مجلة IEEE Spectrum والتى يعرفها كل مهندسي الكهرباء والحاسبات فى العالم تضع دائماً صفحتين تحتويان على أخبار من 16 و32 سنة.
نحن عندنا فى مصر كنوز علمية كثيرة من القرن الماضى متمثلة فى كتابات علماء كبار مثل الدكتور محمد كامل حسين (وقد تحدثنا عنه فى
مقال سابق) والدكتور أحمد زكى (وقد تحدثنا أيضاً عنه فى
مقال سابق) وآخرين، دعنا نرى جوهرة من هذه الكنوز وهو كتاب "العلم والحياة" للعالم العظيم الدكتور على مصطفى مشرفة.
كما يدل عنوان الكتاب فإن فصوله تشرح كيفية إتصال العلم بكل مناحى الحياة: العلم و السياسة، العلم والصناعة، العلم والمال، العلم والأمم العربية، العلم والشباب، العلم والدين، العلم والأخلاق، و ينتهى الكتاب بفصل شامل هو العلم و الحياة.
مثلاً في فصل السياسة نجد مقتطفات و شرح لبعض فقرات كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، حيث يناقش الكتاب (المكتوب على هيئة حوار بين سقراط و أصحابه) مفهوم العدالة و نظم الحكم، و يأخذ الدكتور مشرفة الخيط من هنا و يلفت نظرنا أن مؤلف كتاب الجمهورية هو نفسه مؤسس مجمع العلوم و يتسائل فى نهاية الباب "أليس من واجب السياسة وهي التي تسعى لخير البشر وإسعادهم أن تتعاون مع العلم على تسخير القوى لخدمة الإنسانية ورفاهيتها؟".. سؤال مهم!
قد تبدو العلاقة بين العلم و
المال غريبة إلى حد ما، فنحن عندما نريد أن نمدح عالماً نقول أنه لا يهتم بالمال! فماذا إذاً؟ العلاقة هنا يثيرها عالمنا العظيم بسؤال: ماذا يصنع الأثرياء بأموالهم؟ طبعاً بعض المال يستخدمونه في المعيشة و يدخرون البعض الآخر لفترات الشدة، و لكن ماذا أيضاً؟ يقول الدكتور مشرفة "العلم أساس التقدم في كل ميدان ..... وهو حجر الزاوية في تنظيمها، وحسن إدارتها، بل إن العلم ليخلق المال خلقًا، وينشئه إنشاءً"، فتنظيم و إدارة المال علم ليس يقتصر فقط على علم الاقتصاد و علوم الإدارة.
ينتهى هذا الباب بجملة حرى أن تكتب بماء الذهب على مدخل كل شركة أو مصنع: "المال إذا اقترن بالعلم سما بصاحبه إلى سماء الواجب، وأحاط بقدسية الضمير، وتحولت حريته في استخدامه من حرية الجاهل إلى حرية العالم، وشتان بين جاهل وعالم".
كى يقرن صاحب المال ثروته بالعلم يجب أن يستخدم سلاحاً آخر: الأخلاق، نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين في عالم تحكمه المصالح و توازنات قوى و منطق براجماتى لا يؤمن إلا بحسابات الربح والخسارة ويستخدم العلم فقط في تحقيق هذه المآرب، لذلك دعنا نقفز عدة أبواب من هذا الكتب لنصل إلى باب العلم
والأخلاق، ما العلاقة بينهما؟ يستشهد الدكتور مشرفة بمقولة أرسطو أن أعلى مراتب السعادة الإنسانية هي السعادة التي تنشأ عن الحياة العقلية؛ لأن العقل هو الذي يميز الإنسان على غيره من الكائنات فرأس الفضائل هو الحكمة بعد الحكمة يضع أرسطو الفضائل الأخلاقية مثل: الشجاعة والعدل، و يقول الدكتور مشرفة: "والسعادة الإنسانية التي يتكلم عنها أرسطو طاليس ليست هي التمتع، ولا هي اللذة؛ فهي لا تقوم على الشهوة، ولا على الشهية؛ لأن الشهوة والشهية من صفات البهائم، أما سعادة الإنسان فتسمو فوق التمتع، وتعلو على اللذة بقدر ما يسمو الإنسان، ويعلو على البهائم والسعادة بهذا المعنى الرفيع هي الخير في أعلى مراتبه، وهي الغرض من حياة البشر، والفضائل الإنسانية إنما تُقاس بنسبتها إلى هذا الغرض الأسمى، وعلم الأخلاق هو البحث في الفضائل، والمقارنة بينهما، ونسبتها إلى خير البشر وسعادتهم"، لذلك نحتاج إلى العلم كيف نفهم الأخلاق و نفهم الدافع منها و بذلك يسهل التخلق بها و الوقوف في وجه هذا العصر المادى البراجماتى.
ننتقل الآن إلى سلاح الأمم الاستراتيجي:
الشباب! في باب العلم والشباب يشجع الدكتور مشرفة الشباب على التعلم ولكن في الوقت ذاته من الصعب جداً أن نقول لأى شاب أو شابة أن يدير وجهه للعالَم ولا يسعى للكسب، ما يطالب به الدكتور الشباب هو أن يقيس قيم الحياة قياسًا صحيحًا، فالمال يجب أن يكون وسيلة لا غاية، والمال وسيلة إلى العلم، وإلى إنهاض الصناعة، وإلى رفع مستوى المعيشة، تستطيع الأن أن تحصل على المال عن طريق العلم: بالاختراعات وبالتدريس وبالتأليف إلخ، ولكن جزء من هذا المال يجب أن يوجه لعلمك (قراءة أبحاث جديدة، السفر لؤتمرات، الحصول على أجهزة علمية و ما إلى ذلك).. إذا لم عمل ذلك وتوقفت عن التعلم فستصبح جاهلا أيا كانت شهاداتك، العلم يتقدم وما تعرفه اليوم سيكون قديما أو خطأ غدا!
إن كتاب العلم والحياة كتاب قيم جدا حتى وإن مر على تأليفه ما يزيد عن الستة عقود، ادرس تجارب الأمم وستجد أن أهم سلاح هو العلم و هو الذى يمهد لبقية الأسلحة، قد تقول أن الاقتصاد أولى، عظيم وهل الاقتصاد ليس بعلم؟ راجع باب العلم والمال!
الكتب القديمة التى تتحدث عن العلوم هى كنوز تنتظر من يكتشفها ويعيد تقديمها للعالم.