عَامُ 2020 وجَحِيم الفاشيّة الرَّقْميّة
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 فبراير 2020 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «إسلام حجازى».. نعرض منه ما يلى:
هل يُمكننا إيقاف عالَم الطغيان الرقميّ؟ الحقيقة أنّ الإجابة عن هذا السؤال أمرٌ معقّد وفى غاية الصعوبة، ولاسيّما أنّ أغلبنا أصبح جزءا لا يتجزّأ فى سلسلة من المُجتمعات الافتراضيّة التى نسجت ما يقترب من مجالٍ عامّ متخيّل، نعتقد أنّ تفاعلاتنا وحوارتنا فيه تتميّز بقدرٍ كبير من العقلانيّة والحريّة الكاملة، بل وتعمل بقوّة فى اتّجاه تحديد أولويّات الأجندة السياسيّة لمُجتمعاتنا وترتيبها. لكنّ المُلاحظ أنّ الوضع الرّاهن قد أصبح يسير فى طريقٍ مُعاكس تماما لهذا السيناريو المُتفائل.
فى عالَمٍ وَضع فيه فريقٌ من الخبراء العاملين لحماية كَوكبنا من التهديدات الوجوديّة، تكنولوجيّات الذكاء الاصطناعى على رأس قائمة لعشرة تهديدات تُواجِه الإنسانيّة، وهى التقنيّة التى أُدرجت بالفعل فى أغلب مُنتجات حياتنا الرقميّة اليوميّة، ابتداءً من محرّكات البحث، ومرورا بمَواقع التسوُّق الإلكترونى، وانتهاءً بمَواقع التواصل الاجتماعى، يجب أن يساورنا قلق عميق بشأن قُدرات عالَم الاستبداد الرقمى.
كتبتُ من قبل أنّ كلّ مُواطن على سطح هذا الكوكب تقريبا، أصبح له قرين افتراضى يُلازم شخصيّته الواقعيّة، ويترك بصماتٍ رقميّة مميّزة لأبسط أنشطة وممارسات حياته اليوميّة التى يتفاعل من خلالها مع التطبيقات الذكيّة على شبكة الإنترنت؛ فالكلمات التى نبحث عنها عن طريق محرّكات البحث الشهيرة مثل جوجل، والصور الشخصيّة التى ننشرها مع أصدقائنا على مَوقع انستغرام، والمُنتجات التى نشتريها من مَواقع التسوّق الإلكترونى المُختلفة، والصفحات والتعليقات التى نسجِّل إعجابنا بها على مَوقع الفيسبوك، والأماكن التى نذهب إليها بصحبة تطبيقات الخرائط الملاحيّة فى هواتفنا الذكيّة، والتغريدات القصيرة التى نعبِّر بها عن آرائنا ومَشاعرنا على مَوقع تويتر، والوظائف التى نبحث عنها على مَوقع لينكد إن، كلّها أنشطة ومُمارسات عاديّة، تترك بصماتنا الرقميّة التى تسعى أجهزة الاستخبارات السريّة وشركات تحليلات البيانات الضخمة إلى اقتفاء آثارها، تمهيدا لفرْزها وترتيبها ومُعالجتها، واستخدامها فى عَوالِم خفيّة مليئة بأنماطٍ متعدّدة من التلاعب العاطفى والسلوكى للجماهير. وسواء اعترفنا بذلك أم لا، فمِن المؤكّد أنّ هذه المؤسّسات أصبحت أكثر خطورة علينا من مُراقبة شخصيّة «الأخ الكبير» التى رسمها الصحفى والروائى البريطانى الشهير جورج أورويل فى روايته «1984»، لوصف آليّات عمل الحُكم الشمولى الديكتاتورى والخطوات التى يتبعها لتحقيق السيطرة الكاملة على عقول الجماهير.
اليوم، ومع تزايُد انغماس أغلبنا فى بعض مصائد الثورة الصناعيّة الرّابعة، فإنّ البيانات والمعلومات التى ستُصبح مُتاحة عنّا ستكون أكثر بكثير من تلك التى كانت مطلوبة لتشغيل الدول الشموليّة التقليديّة فى الماضى. وعلى الرّغم من الاعتراف بالقوّة الهائلة التى قد تضمنتها الثورة التكنولوجيّة الجديدة لتحقيق الصالح الاجتماعى، فإنّ احتمالات إساءة استخدام هذه القوّة للتحكُّم فى مصير الجماهير ستظلّ قائمة، مع وجود حكومات تسعى دائما إلى طمْس هويّة مُواطنيها وتحويلهم لأرقامٍ هامشيّة، تعمل فى صمت كالآلات خوفا من الأخّ الرقمى الكبير الذى يُراقب كلّ شيء.
ديكتاتوريّة الصين الرقميّة
أكّدت نتائج العديد من الدراسات أنّ تحليلات الذكاء الاصطناعى والبيانات الضخمة وبعض خوارزميّات التعلّم العميق، قد تُمكِّن بعض الدول من تطوير هويّة مواطنيها على النحو الذى تريده فى المستقبل القريب. هنا، حكومة دولة الصين، على الرّغم من كونها ليست الوحيدة بلا شكّ، يُمكن الإشارة إليها باعتبارها تُقدِّم أنموذجا مثاليّا على الحكومات التى تسعى إلى توظيف التكنولوجيا من أجل فرْض السيطرة. فمنذ وصول الرئيس شى جين بينغ إلى السلطة فى العام 2012، كانت سياساته واضحة بشأن زيادة القيود على الفضاء الإلكترونى الخاضع للرقابة الصارمة بالفعل، عبر تقنيّات الحجب المعروفة باسم «الجدار النارى العظيم»، فصدر قانون الأمن السيبرانى الصينى، الذى من شأنه تسهيل مهمّة سيطرة الدولة ووصولها منفردة إلى بيانات المُستخدِمين، وهو القانون الذى وضع قيودا جديدة على بثّ الأخبار عبر شبكة الإنترنت، تتطلّب الحصول على تصريح مُسبق من الحكومة قبل النشر على تطبيقات المُراسَلة الشخصيّة الفوريّة أو مَواقع التواصل الاجتماعى، ومَن يُخالف ذلك ستكون عقوبته السجن بتهمة «نشر الشائعات».
المُلاحظ، أنّ ترسانة ديكتاتوريّة الصين الرقميّة ذهبت أيضا لتسخير الطفرات التكنولوجيّة فى مجالات مثل الذكاء الاصطناعى، وإنترنت الأشياء، وتحليلات البيانات الضخمة، لتعظيم عمليّات مُراقبة حياة أكثر من 1.4 مليار مواطن صينى، فدشَّنت العديد من مشروعات المُراقَبة الإلكترونيّة التى تضمَّنت تكنولوجيا التعرّف إلى الوجه بأكثر من 200 مليون كاميرا مُنتشرة فى أنحاء البلاد كافّة، وتقنيّة تحديد الأصوات فى المُكالمات الهاتفيّة، وبَرامج جمْع بيانات المُواطنين البيومتريّة وتخزينها، بما فى ذلك حمضهم النووى وبصمات الأصابع والعَين.
فضلا عن ذلك، يعمل المسئولون الصينيّون الآن على الانتهاء من تضفير كلّ مُخرجات آليّات المُراقبة الإلكترونيّة فى نظام ائتمان اجتماعى وطنى، يتوقّع أن يحصل كلّ مواطن صينى فيه على ما يُسمّى بنقاط الائتمان، التى ستستخدم بياناته وأنشطته عبر الإنترنت لتحديد درجة ولائه، وما إذا كان يُمكن أن يكون مؤهَّلا للتقدّم بطلبٍ للحصول على وظائف أو قروض، أو استحقاقٍ للسفر إلى بلدان أخرى، أو حتّى استخدام المواصلات العامّة. ومن المخطّط أن يعمل هذا النظام، الذى قد لا نُبالغ فى وصفه بأنّه أكبر تجربة هندسة تكنو ــ اجتماعيّة فى تاريخنا المُعاصِر، بكامل طاقته مع حلول العام 2020.
بل والأكثر خطورة من ذلك، أنّ بعض تقارير وسائل الإعلام ذكرت أيضا أنّ شركة «بايدو»، المُكافئ الصينى لمحرّك البحث جوجل، طلبت تمويلا عسكريّا فى مشروعٍ تكنولوجى ضخم مدّته 15 عاما يُدعى «مشروع الدماغ الصيني»، ويَستهدف البحث فى الأساس العصبى للوظيفة الإدراكيّة للمُواطنين. ومن خلال تنفيذ مشروعاتٍ مُماثلة، يبدو أنّ أغلب ابتكارات الثورة الصناعيّة الرّابعة، ستُصبح أدوات قويّة فى أيدى طغاة العالَم، لخلْق نَوعٍ جديد من المُجتمعات الخاضعة للسيطرة.
العبوديّة الرقميّة الطوعيّة
الحقيقة أنّ هرولتنا فى طريق عصر الفاشيّة الرقميّة، لا ترجع إلى الدول والأجهزة الأمنيّة التى تُحاول إحكام قبضتها عبر ترسانتها الإلكترونيّة للمُراقبة والضبط الاجتماعى فحسب، حيث يُمكننا الحديث أيضا عن بعض تفاصيل ثقافة العبوديّة الطوعيّة التى انتقلت إلى المُجتمعات الافتراضيّة، وأصبحت تُسهم بشكلٍ مجّانى فى تحقيق أهداف الطغاة الحكوميّين.
قبل 15 عاما من الآن، ومع طرْح تطبيقات الجيل الثانى من الإنترنت أو ما يُعرف بالـ (Web 2.0)، تَسارعت الأقلام والدراسات فى تعليق الآمال على ما يُمكن أن تقدّمه هذه الأدوات التكنولوجيّة فى مجال دعم الحريّات الفرديّة وتعزير الديمقراطيّة؛ لكنْ يبدو أنّ الكثير من هذه الآمال قد تحطَّم بالفعل مع مرور الوقت، واتّخاذ كثير من مبادئ وأعراف العبوديّة الطوعيّة، كما وصفتها أعمال المفكّر الفرنسى الشهير «إيتيان دو لا بويسى (1530ــ1563)، طابعا رقميّا جديدا يشوّه طبيعة المُجتمعات الافتراضيّة ذاتها وخصائصها، ويحوِّلها بشكلٍ تدريجيّ إلى مساحات تكنو ــ اجتماعيّة غير آمنة من الأساس، لا تختلف كثيرا عن الفضاءات التقليديّة الخاضعة لسيطرة الدولة، حتّى غدت الحريّة تبدو وكأنّها شيء لا يمتّ بصلة إلى فطرة أغلب مُستخدِمى الفضاءات الافتراضيّة، بل واقتربنا بشدّة من الوصول إلى حالة سجن افتراضى بانوبتيكى (Panopticon) كبير، تحضر فيه سلطة الدولة بشكلٍ غير ملموس، وتعتمد فى جزءٍ كبير من هندستها للجسد الانضباطى على تغذية ثقافة العبوديّة الرقميّة الطوعيّة بين الخاضعين فيه.
قد يعتقد القارئ الكريم أنّ هناك مُبالَغة فى توصيف حالة مُجتمعات المُراقَبة المُعاصِرة، لكنْ إذا كان مُنغمسا قليلا فى النشاط الافتراضى، فسرعان ما سيتذكّر أنّه تردَّد أكثر من مرّة خلال الفترة الأخيرة، قبل أن يكتب تعليقا أو حتّى يُبدى إعجابا بتعليقٍ أو بمجموعة (جروب) للآخرين فى حساباته الشخصيّة بمَواقع التواصل الاجتماعى، خوفا من الفاشيّة غير معلومة المصدر.
ختاما، وبالعودة إلى السؤال الذى تمّ طرحه فى البداية حول قدرة الجماهير على مُواجَهة عالَم الطغيان الرقمى القادم، لا شك أنّ الإجابة عن هذا التساؤل، فى الوقت الرّاهن، قد لا تحمل الكثير من التفاؤل؛ وذلك ببساطة لأنّ التطوّرات التكنو ــ معلوماتيّة يبدو أنّها ستصبّ دائما فى مصلحة السلطة على حساب حريّة المواطن وخصوصيّته، فضلا عمّا تتيحه من زيادة قدرة الدولة على استباق مَخاطر وتهديدات المُقاوَمة الجماهيريّة المُحتملة. لقد أصبحنا جميعا نتعامل مع مسلّمة وجود «الكلّ تحت المُراقَبة»، لكن فى الوقت نفسه لا نعرف هويّة مَن يُراقبنا أو حتّى مَوقعه من السلطة. ومع ذلك، تظلّ فُرص الانعتاق من الفاشيّة الرقميّة مطروحة للنقاش، حتّى وإن كانت تحتاج إلى مزيدٍ من البحث والتنقيب لتطوير آليّاتٍ جديدة للمُقاومة، تكون قادرة على كشف تفاصيل السلطة وأسرارها، وتفكيك أو ــ على الأقلّ ــ كبْح قدرتها على صناعة الجسد الانضباطى.
النص الأصلى
http://bit.ly/2vGoCr2