الهجرة والتنمية في مصر
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 4 فبراير 2023 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
دقت نقابة الأطباء المصريين ناقوس الخطر مجددا فى الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر الماضى مع إعلانها عن إحصائيات وصفتها بالمفزعة عن استقالات الطبيبات والأطباء المصريين من وظائفهم فى المستشفيات الحكومية وهجرتهم للعمل فى الخارج. الناقوس كانت النقابة قد دقته فى شهر أبريل السابق عليه بمناسبة صدور تقرير للجنة الإعلام بها كشف عن استقالة 11 ألفا و536 طبيبا وطبيبة خلال 3 سنوات، منذ أول عام 2019 وحتى نهاية شهر مارس 2022. من 1044 سنة 2016، ارتفع عدد الاستقالات بين الأطباء والطبيبات إلى 3107 سنة 2019 ثم إلى 4127 سنة 2021 بمعدل استقالات يومى بلغ 11 طبيبا وطبيبة. هذه الإحصائيات ورد ما يشبه التأكيد لها فى تقرير صادر عن المجلس الطبى العام البريطانى فى أكتوير 2022 ذكر أن عدد الأطباء المصريين الذين هاجروا إلى بريطانيا فى الأعوام الخمسة الأخيرة بلغ حوالى الخمسة آلاف، ما وضع مصر فى المركز الثالث بين دول المنشأ للأطباء والطبيبات الأجانب فى بريطانيا.
هذا وضع مزعج فعلا لأنه يؤثر على توفير الخدمات الطبية فى مصر خاصة وأن عدد الأطباء فيها لكل عشرة آلاف من السكان هو 8,6 بينما يرتفع المتوسط العالمى إلى 23 طبيبًا وطبيبة، وهو ما يعنى أن فى مصر طبيبا واحدا لكل 1162 نسمة بينما يبلغ المعدل العالمى 434 فقط. أهمية هجرة الأطباء فائقة وهى تستحق مقالا وحدها سنرجع إليه على هذه الصفحة فى وقت لاحق، غير أننا نتخذها اليوم مدخلا لمناقشة العلاقة الأوسع بين الهجرة والتنمية. «ضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية فى جميع الأعمار» هو الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، والأهداف السبعة عشرة لها متكاملة تؤثر كل منها فى تحقيق الأخرى وتتأثر بها.
• • •
للهجرة الدولية نظريات متعددة، إلا أننا لأغراض هذا المقال نختصرها فى فى مقاربتين نستعرض ملامحهما الرئيسية. المقاربة الأولى متفائلة، تنظر إلى الهجرة الدولية بشكل إيجابى، أما الأخرى فتوصف بالمتشائمة وتتخذ منها موقفا سلبيا. الهجرة المقصودة هنا هى الهجرة من أجل العمل. دراسة لمنظمة العمل الدولية قدّرت أنه فى سنة 2019 مثّل العمال المهاجرون 69 فى المائة من المهاجرين فوق سن الخامسة عشرة. العمال المهاجرون هم من يعملون فى بلدان غير بلدانهم، فى أعمال يدوية أو ذهنية، منخفضة الماهرات أو رفيعتها. على ذلك، يشمل العمال المهاجرون الأطباء والمهندسين، والإداريين، وعمال البناء والعاملات والعمال المنزليين.
نركز فى تحليلنا على الهجرة فيما بين بلدان المنشأ النامية وبلدان المقصد المصنعة المتقدمة، خاصة الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى. المقاربة الإيجابية تعتبر أن الهجرة تنتقل بالفرد من حيث ينخفض أجره أو دخله إلى حيث يرتفعان نتيجة للاختلاف فى حظ بلدان المنشأ والمقصد من العمل والأرض ورأس المال وفى كفاءة استخدامها لعوامل الإنتاج هذه. يفترض فى هذه المقاربة الإيجابية أن الانتقال يستمر حتى تتعادل الأجور فى بلدان المنشأ وبلدان المقصد، كما يفترض أن يتدفق رأس المال فى الاتجاه المعاكس حتى يستوى العائد عليه هنا وهناك. هذا لا يحدث فى الواقع لأسباب عدة ولكن ليس مبغانا دراسة النظريات ونقدها. المهم فى هذه المقاربة أنها تعتبر أن الهجرة برفعها لمستوى أجور العمال المهاجرين ودخولهم ترفع من مستوى معيشتهم، ثم هم يحولون أجزاء من أجورهم إلى أسرهم فى بلدانهم الأصلية فيرتفع مستوى معيشتهم هم كذلك، فضلا عن أن هذه التحويلات، على المستوى الكلى، تُنَشِّط اقتصادات بلدانهم وتسدّ أى أعجاز فى موازين حساباتها الجارية إن وجدت، أو تحقق فوائض فيها إن لم توجد. بهجرتهم العمال المهاجرون يكتسبون المهارات أيضا أثناء عملهم فى بلدان المقصد وهى مهارات تفيدهم وتفيد بلدانهم عند عودتهم إليها. بعبارة أخرى، ينتج عن الهجرة اكتساب للأدمغة. يلاحظ أن التركيز فى هذه المقاربة هو على العرض من العمل الذى يصدر عن بلدان المنشأ، وفيها أن عمليات الهجرة تبدأ من عند هذه البلدان رغبةً من المهاجرين فى تحسين ظروف عملهم ومعيشتهم. على العكس، المقاربة المتشائمة تركز على بلدان المقصد المتقدمة التى تحتاج إلى عنصر العمل الناقص لديها لأسباب شتى. هذه البلدان، وهى مركز النظام الاقتصادى العالمى، نزحت الموارد الاقتصادية للبلدان التى استعمرتها، وتركتها تابعة لها فى محيط هذا النظام. نتيجة لتطورها الديموغرافى، ولتطور بنية قطاعاتها الاقتصادية والمهن فيها ولارتقاء النساء فى الوظائف التى تشغلنها، فإن بلدان المركز فى حاجة مستمرة إلى العمال من البلدان النامية الواقعة فى محيط النظام العالمى لشغل الوظائف التى لا يوجد لها عمال فى أسواق عملها، أو لا يرغب عمالها فى شغلها لأسباب مختلفة. مهم فى هذه المقاربة أن عمليات الهجرة تبدأ من الطلب فى بلدان المقصد فهى التى تحدد اليد العاملة المطلوبة وسياساتها تفتح أو تغلق الطريق أمام اليد العاملة التى تنشد الهجرة إليها. بهذا الشكل يتوطد النظام الاقتصادى العالمى القائم وتبقى البلدان النامية فى محيطه، وتستمر الأنشطة الاقتصادية منخفضة الإنتاجية فيها التى لا تستوعب العرض من العمل فيها فتتواصل الحلقة المفرغة من الهجرة والتخلف، وينشأ نزيف الأدمغة.
ليس فى الواقع ما يوفر بيانات على السلامة الكاملة لهذه المقاربة أو تلك. فى مصر، خففت الهجرة من الضغوط على سوق العمل فحالت دون تفاقم البطالة، ودون مزيد من التشغيل المنقوص والتشغيل غير المنظم وتدهور شروط العمل وظروفه. الهجرة من أجل العمل فى بلدان الخليج وفى ليبيا والأردن وبلدان أوروبا وفرت أجورا ودخولا للعمال المهاجرين المصريين رفعت مستويات معيشتهم، وهم حوّلوا أجزاء من دخولهم إلى ذويهم فى مصر، ساعدوهم بها على تلبية احتياجاتهم المعيشية من مأكل وملبس ومسكن، وعلى تمويل تعليم أفراد أسرهم ورعايتهم الصحية وكلاهما من سبيل رأس المال البشرى. فى السنوات الأخيرة بلغت التحويلات ما يقرب من الـ30 مليار دولار سنويا، على المستوى الكلى، دفعت الدم فى دورة النشاط الاقتصادى، وساندت ميزان الحساب الجارى معوضةً العجز المزمن فى الميزان التجارى المصرى. العمال المهاجرون العائدون إلى مصر اكتسبوا مهارات يدلّ عليها ارتفاع أجورهم عن أجور نظرائهم الذين لم يهاجروا. لا مراء فى أن الهجرة عادت بفوائد على مصر وعلى الشعب المصرى، وإن لم تحل مسألة التشغيل ولا التنمية فى البلاد.
فهل يعدم التحليل الذى تمثله المقاربة المتشائمة كل وجاهة؟ لا، هو لا يعدمها. توجد بالطبع مفارقة فى مصر، كما فى البلدان العربية فى شمال أفريقيا وغربى آسيا، تميزها عن غيرها وهى ارتفاع معدلات البطالة لدى المتعلمين تعليما عاليا ومتوسطا عن متوسط معدل البطالة فيها. هجرة المتعلمين تعليما عاليا أو متوسطا هى حلّ منطقى حتى لا يبقوا عاطلين عن العمل، وهم بهجرتهم سيحوّلون مدخراتهم إلى ذويهم فتترتب النتائج الحميدة المذكورة أعلاه. ولكن معضلةً تنشأ هنا. إن هاجر رفيعو المهارات المتعلمون تعليما عاليا، الذين تتفق نظريات التنمية على أنهم المحركون للتنمية فى كل مكان، فمن الذى سيحرك التنمية فى مصر؟ كما تقول المقاربة التشاؤمية، التقسيم الدولى للعمل يترك لمصر، ضمن بلدان المحيط، الأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة المنخفضة التى لا تحتاج إلى المهارات الرفيعة والمتعلمين تعليما عاليا. نفس هذا التقسيم هو الذى يجعل البلدان المتقدمة متعطشة إلى هؤلاء المتعلمين خاصة وأنها تعانى من انكماش القوى العاملة الوطنية، ومن عجز الأنظمة التعليمية فيها عن إنتاج ما يكفى من متخصصين لشغل فرص العمل دائمة التغير نتيجة لسرعة إيقاع التطورات التكنولوجية.
• • •
الديمقراطية والعدالة فى العلاقات الاقتصادية العالمية مطلوبتان، يجب العمل على تحقيقهما بكل جدية وبلا تأخير. غير أن هذا سيستغرق وقتا قد يطول. فما العمل الآن بالنسبة للهجرة؟ الهجرة بشروط عادلة يمكن أن تساهم فى إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية العالمية. إن كانت الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى مثلا قد أصبحت فى أمسّ الحاجة إلى العمال المهاجرين، فإن عليها ألا تكتفى باجتذابهم وبمنحهم مزيدا من التجربة والخبرة فى منشآتها الصناعية والخدمية والزراعية، لأنها ستحرم سوق العمل فى مصر، أو فى مثيلاتها من البلدان فى شمال أفريقيا مثلا، من المتعلمين المفترض أن ينهضوا بها. هجرة الأطباء المصريين مثال على ذلك، مثلما هى هجرة نظرائهم والمهندسين من المغرب وتونس مثلا. على الدول الأوروبية أن تمول وأن تشارك فى تعليم وتدريب القوى العاملة المطلوبة فى مصر، وفى غيرها، حتى يمكن تلبية الطلب على العمل فى كل من مصر، ومثيلاتها وفى نفس الوقت تلبية الطلب فى الدول الأوروبية. رفع مستوى رفيعى المهارات التى تحتاجها الدول الأوروبية ليس كافيا. عليها كذلك استقبال العمال منخفضى المهارات وتدريبهم لرفع مستويات كفاءتهم، وهؤلاء العمال منخفضو المهارات مطلوبون أيضا وبشدة فى أسواق العمل الأوروبية. وعلى الدول الأوروبية أيضا أن تصمم مناهج أكثر تبسيطا، دون أن تكون أقل جدية، للاعتراف بالشهادات والمهارات المكتسبة حتى يسهل الانتقال للعمل فى الخارج من غير أن يؤدى هذا الانتقال إلى تبديد المهارات. كما أن فى الهجرة نزيفا فى الأدمغة، واكتسابا لها، فإن فيها أيضا خسارة للأدمغة وهى التى تحدث عندما يعمل شخص فى مهنة المعارف والمهارات المطلوبة فيها أقل من معارفه ومهاراته.
مصر والبلدان ذات الوضع المشابه لوضعها يجب من جانبها أن تدرج هجرة مرتفعى المهارات والكفاءات فى علاقاتها بشأن الهجرة ومفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبى والدول الأعضاء فيه. ثم إن عليها أن تعمل عملا قصديا على رفع المستوى المعرفى للأنشطة الاقتصادية فيها، وتحسين شروط العمل وظروفه فيها، حتى تحفز المهاجرين على العودة إليها لكى لا يكونوا خسارة دائمة لها ولعمليات التنمية فيها. قد يكون صناع السياسات الأوروبيون صادقين فى الإجراءات التى يصوغونها لدفع المهاجرين إلى العودة إلى بلدانهم بعد بضع سنوات يقضونها عندهم، غير أن المنشآت الاقتصادية ومعامل البحث والمستشفيات يمكن أن تعمل على إبقائهم بعد أن اكتسبوا الخبرة فيها. باختصار على مصر وبلداننا عموما وضع وتنفيذ سياسات صناعية تخلق طلبا على مرتفعى المهارات والكفاءات.
نختتم المقال بالتشديد على تصدى الدول الأوروبية للمعضلة التى تواجهها هى، بين حاجة أسواق عملها للهجرة والموقف المناوئ للهجرة الذى يتخذه الرأى العام فيها. هذا لا يتأتى إلا بتغيير الخطاب المتداول فى المجال العام عن الهجرة بعمل قصدى منتظم.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة