بطاقة تعريـف الدولةالمصريـة الجديدة
سامر سليمان
آخر تحديث:
الإثنين 5 مارس 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
أخيرا وصلنا هذا الأسبوع إلى محطة كتابة الدستور. وهى محطة مهمة فى مسيرة ما بعد مبارك بما فيها من تفكيك لنظام يوليو وبناء نظام جديد لم تستقر معالمه بعد. يصل الشعب إلى هذه المحطة بعد سنة طويلة فيها الكثير من الدماء والألم والإحباط من ضآلة ما تحقق بالمقارنة بما كنا نحلم به. الرحلة التى قطعناها للوصول إلى محطة كتابة الدستور تشبه تلك الرحلة التى يقطعها ملايين المصريين من بيوتهم إلى أعمالهم فى المواصلات العامة من أتوبيسات ومتروهات وميكروباصات ويتعرضون فيها للمشقة والمهانة. الشعب أيضا تعرض خلال مسيرته فى هذه السنة للمشقة والمهانة. لكن المهم أننا وصلنا إلى محطة كتابة الدستور. ولم يعد أمامنا إلا أن ننفض الغبار عن ملابسنا وأن نضمد جراحنا وأن نأخذ نفسا عميقا ونركز فى عملية كتابة هذه الوثيقة المهمة التى ستحدد جزءا كبيرا من مستقبل هذا البلد.
الدستور للدولة مثل بطاقة التعريف للمواطن. بطاقتى الشخصية فيها اسمى وجنسى وسنى ووظيفتى وعنوانى. نحن بصدد كتابة بطاقة شخصية جديدة للدولة المصرية فى مرحلة ما بعد مبارك. اسم الدولة الثلاثى الرسمى سيظل غالبا كما هو «جمهورية مصر العربية». لا أحد بالطبع يريد رفع كلمة «جمهورية» والعودة إلى «المملكة» التى ارتبطت باسم مصر الرسمى بعد الاستقلال وحتى سقوط الملك فاروق. ومن نافل القول إنه لا أحد يطرح رفع كلمة «مصر» من الاسم الرسمى للبلاد، وإلا ماذا سنسميها؟ جمهورية ايجيبت؟ «كيميت»؟ أم جمهورية «الأرض السوداء»؟ أما الاسم الثالث وهو «العربية» فمن شبه المؤكد أنه باق. باختصار الاسم باق كما هو رغم كل الجدل الطويل طوال العقود الماضية عن إعادة النظر فى هوية مصر. الآن يبدو أكثر فأكثر أن هذا الجدل الهوياتى ما كان إلا مدخل من خلاله ينفذ المصريون إلى تاريخهم ويتعرفون عليه، أو طريقة ملتوية للصراع حول اختيارات المستقبل، وهذا فى أحسن الأحوال، أو كان تضييعا للوقت وتسلية للشعب بينما كانت عصابات السلطة تجتهد فى نهب البلاد وتفكيكها قطعة قطعة. فليبق اسم مصر الرسمى على ما هو عليه. وفى كل الأحوال لم يبلغ عته السلطة فى مصر حد تسمية مصر المسميات الفكاهية التى أطلقها القذافى على بلاده مثل «الجماهيرية العظمى»، كما لم يبلغ تعظيم السلطة للحاكم حد وصف الدولة باسم الأسرة الحاكمة كما حدث فى المملكة العربية السعودية الشقيقة.
●●●
هناك ثلاثة موضوعات أساسية فى بطاقة تعريف الدولة المصرية أعتقد أنه من المهم تركيز النقاش عليها. أولها ماهية الدولة. وهنا بطاقة تعريف الدولة مختلفة عن بطاقة المواطن. فبطاقة المواطن ليس فيها تحديد لماهيته. فلا نكتب مثلا أن فلانا إنسانا لأن ذلك من نافل القول. فليس من الممكن أن يكون زيد طائرا أو أن يكون عبيد نباتا. لكن بطاقة تعريف الدولة تحتاج إلى تحديد ماهيتها، على الأقل فى ديباجة الدستور. بعبارة أخرى ما هى الدولة؟ ماذا تعنى بالتحديد فى الواقع المادى؟ والموضوع ليس تافها لأن كلمة دولة مستخدمة فى كل دساتير مصر من أول 1923 إلى 1971 بمعنيين لابد من التمييز بينهما. المعنى الأول هو مصر، أو البلد كله بما فيه من شعب وأرض وحكومة. هكذا يتكلم دستور 23 عن أن «مصر دولة سيادة وهى حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شىء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابى.» وهكذا يتكلم دستور 1971 المعدل عن أن «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى...» الدولة هنا هى مصر كلها، بكل ما فيها وما عليها. لكن دساتير البلاد المتعاقبة تتكلم حديثا آخر عن الدولة يشى بأن الدولة هنا ليست مصر كلها. فعلى سبيل المثال يقول دستور 1971 فى مادته 29 «تخضع الملكية لرقابة الشعب وتحميها الدولة...» إذن نحن هنا لدينا شعب من ناحية ودولة من ناحية أخرى. فما هى إذن تلك الدولة التى لها كيان متميز عن الشعب وإن لم تكن بالطبع منفصلة عنه؟ الدولة هنا غالبا مقصود بها ضمنا مجموع المؤسسات العامة المملوكة للشعب والتى تمارس وظائف السيادة كوكيل عن الشعب. وإذا كان هذا التعريف الضمنى مطابقا لما يقصده كتاب الدستور فيستحسن فى دستور مصر القادم أن يُصرح بما هو ضمنى منعا للبس وتأكيدا على بديهية تم العصف بها بسبب التراث الاستبدادى الطويل وهى أن مصر أكبر من مؤسسات الدولة فيها. وفى هذه الحالة ممكن الاستغناء عن استخدام الدولة بأى معنى آخر ونستخدم مكانها كلمة جمهورية. فتصبح جمهورية مصر العربية هى صاحبة السيادة وهى الحاضنة للأرض والشعب والدولة. والأمر مطروح على خبرائنا الدستوريين لكى يفتونا فيه.
الموضوع الثانى والمهم فيما يخص بطاقة تعريف الدولة المصرية هو وظيفتها. ماذا تفعل هذه الدولة بالضبط؟ سنقول بالطبع فى الدستور القادم إن الدولة تعمل فى خدمة الشعب وفى تحقيق رفاهيته. السؤال هو كيف؟ من المهم هنا البعد التام عن اللغو والعبارات الإنشائية مثل المادة 24 من دستور 1971 والتى تنص على أن الدولة «ترعى الإنتاج وتعمل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية»! ويجب فى كل الأحوال البعد التام عن الكذب والادعاء الذى يجعل الدولة تزعم القيام بوظائف هى فى الحقيقة لا تقوم بها بتاتا. وسأضرب هنا مثالا واحدا. تقول المادة 13 من دستور مصر الساقط أن «العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة...» ولكن هذا كذب فاضح. لأنه فى الحقيقة الدولة لا تكفل العمل لكل مواطنيها، ولا يمكن أن تكفله إلا فى إطار نظام تخطيط مركزى غير مطروح إطلاقا على الأجندة. نعم العمل حق ولكن ليس على الدولة أن تكفله لكل مواطن، ولكن عليها فى رأيى أن تسعى لتشجيع خلق الوظائف فى القطاعين الخاص والعام وعليها أن تعوض من يرغب فى العمل ولا يجده، وهذا ما يسمى فى بلاد العدالة الاجتماعية «إعانة البطالة». إذن تحديد وظائف الدولة المصرية الجديدة مسألة بالغة الخطورة لأنها ستحمل الدولة بأعباء يجب أن يتوافق الشعب على توفيرها لمؤسساته العامة. بالطبع وظائف الحد الأدنى للدولة وهى الأمن والدفاع والعدالة وصك العملة وخلافه ليست محل جدل. لكن وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تأخذ حقها فى النقاش والتفاوض والتوافق لأنها ستحدد علاقة الدولة بشعبها.
أما تنظيم الدولة الداخلى (نظام الحكم) فهو الموضوع الثالث الخطير فى الدستور الجديد، والتعرض له يستحق مقالة مستقلة. المراد بيانه أساسا فى هذه المقالة أن عملية كتابة الدستور من الخطورة والأهمية بما لا يصح أن يتم «سلقها» فى أسابيع أو نقل أبواب كاملة من دستور ركيك وضعيف. ففائدة عملية كتابة الدستور لا تقتصر فقط على انجاز تلك الوثيقة التى ستطبع فى كتاب وتوزع على الناس. فالنقاشات التى يدخل فيها الشعب وبالذات المتعلمين منه حول أسس الدولة ووظائفها وعلاقتها بالشعب وحدود تدخلها فى حياة الأفراد هى عملية تثقيفية هائلة وعملية سياسية بامتياز ستؤدى فى النهاية إلى تعرف المجتمع على بعضه البعض وإلى وصول مختلف جماعات المجتمع إلى حلول وسط فيما يخص الخلافات حول الدولة ووظائفها وحدودها التى نراوغ منذ عدة عقود للهروب من حسمها ونصر على ترحيلها للأجيال القادمة. لقد حانت لحظة الحقيقة والحسم. فليأخذ النقاش حقه.