هل غيرت الجامعة المجتمع؟ (2)
عماد أبو غازي
آخر تحديث:
الأحد 4 مارس 2012 - 9:05 ص
بتوقيت القاهرة
ارتبطت معارك حرية البحث العلمى وإقرار القيم الأكاديمية فى تاريخ الجامعة المصرية بطه حسين، وإذا كانت معركته مع الشيخ المهدى أول معاركه؛ فإن أشهر هذه المعارك وقعت سنة 1926 بعد تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية، إنها معركة كتاب «فى الشعر الجاهلى»، كتاب صغير فى حجمه تقل صفحاته عن مائتى صفحة، لكنه كبير فى قيمته وسبقه بما حواه من مغامرة فكرية جريئة، كتاب رغم صغره هز الثوابت التى ظل الناس يجترونها جيلا وراء جيل، صدر كتاب «فى الشعر الجاهلى» عن مطبعة دار الكتب فى مارس سنة 1926، ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية فى تاريخ الأدب العربى ليس لها طابع سياسى إلا أن الضجة التى أعقبت صدور كتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين وصلت بصاحب الكتاب إلى المثول أمام النيابة العامة متهما، وظهرت الأبعاد السياسية للصراع حول الكتاب سريعا.
ما الذى جاء به طه حسين فى كتابه من أفكار ساقته إلى النيابة العامة؟ وهل يمكن فى أى مجتمع حر أن يؤدى بحث فى تاريخ الأدب بصاحبه إلى النيابة ليحاسب على آرائه العلمية محاسبة قضائية بدلا من أن يرد عليه المختلفون معه ردا علميا؟
الكتاب ببساطة يتناول الشعر الذى ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام فى جزيرة العرب، العصر الذى نسميه عادة العصر الجاهلى، ويشكك فى صحة انتساب الكثير من هذا الشعر إلى ذلك العصر.
ويتكون كتاب «فى الشعر الجاهلى» من ثلاثة أقسام، وعبر هذه الأقسام الثلاثة سعى طه حسين إلى إثبات فكرته هذه، فبدأ فى القسم الأول بتقديم منهجه فى البحث الذى يقوم على الشك، الشك الذى يقود إلى الوصول ليقين علمى، ويؤكد فى هذا القسم من الكتاب أنه يرفض التسليم بما قاله القدماء فى قضايا الشعر والأدب دون مناقشة وتحليل ونقد، وينتهى إلى إعلان رأيه الذى توصل إليه وهو أن غالبية الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلى يعود إلى عصر ما بعد الإسلام، وفى القسم الثانى من الكتاب يحدد أسباب انتحال الشعر من وجهة نظره ويقسمها إلى أسباب دينية وسياسية وأدبية، أما القسم الثالث فيتناول فيه بعض الشعراء المنسوبين إلى العصر الجاهلى مثل: امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وغيرهم محاولا التثبت من كونهم شخصيات تاريخية، أو تحديد التاريخى والأسطورى فى سيرهم، وما هو من أشعارهم فعلا إذا كانت لهم أشعار، وما هو منتحل ومنسوب إليهم.
ويؤكد طه حسين فى كتابه أن الأخذ برأى الأغلبية يصلح فى السياسة لكنه لا يصح فى العلم، ويدلل بمثال بسيط واضح، فقد كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحث هنا وباحث هناك امتلكا الجرأة على الشك والبحث فوصلا إلى الحقيقة وهدما الوهم والأسطورة.
لقد أكد طه حسين فى التمهيد الذى بدأ به كتابه من أن الكتاب يبحث فى تاريخ الشعر العربى بمنهج جديد لم يألفه الناس عندنا، وكان واثقا من أن فريقا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين، وفريقا آخر سيزورّون عنه ازورارا، وقال: «أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم فى حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد»، لكنه لم يتوقع أن يصل الأمر بالساخطين والمزورّين إلى حد الدفع به إلى النيابة العامة.
انتهت أزمة «فى الشعر الجاهلى» بحفظ التحقيق الذى أجرته النيابة العامة وصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان «فى الأدب الجاهلى»، حذف منها طه حسين بعض العبارات التى استفزت التيارات المحافظة واعتبروها ماسة بالعقائد الدينية، لكنه تمسك فيها بمنهجه فى التعامل مع الشعر الجاهلى.
وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة فى حياة الجامعة وما انتهت إليه من حلول وسط، هشاشة البيئة التى ظهرت فيها الجامعة فى مصر، ومدى ضيق المجتمع بالجديد والجرىء من الأفكار، وهشاشة حرية البحث العلمى فى الجامعة الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأى العام المحافظ، والتأثير السلبى للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصرى فى صراعاتها، وخضوع القوى التى ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأى لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذى يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأى والتعبير، تخاذل فى مواقفه فى قضية الشعر الجاهلى خوفا من تأثير أى موقف إيجابى يتخذه على نتائجه فى الانتخابات.
لم تنته المعارك من أجل حرية البحث العلمى ومن أجل جامعة دينها العلم عند طه حسين بل وورث تلاميذه وقسمه وكليته فى الجامعة المصرية التركة، فنالهم القسط الأكبر من تحمل عبء ضيق المجتمع بالحرية، فمع نهاية الأربعينيات وعلى وجه التحديد فى عام 1947 تفجرت قضية جديدة من قضايا حرية البحث العلمى، عندما تقدم محمد أحمد خلف الله برسالته للدكتوراه عن القصص القرآنى، وكانت الرسالة تحت إشراف الشيخ أمين الخولى وهو عالم له جذوره الدينية من خلال دراسته فى مدرسة القضاء الشرعى، وكان خلف الله حذرا فى دراسته فى تناول الأمور الدينية، وتضمنت الرسالة دفاعا عن الإسلام فى مواجهة آراء المستشرقين، ورد الرجل على كثير من كتاباتهم رغم استخدامه مناهجهم، وميز خلف الله فى رسالته بين القصص التاريخى فى القرآن وقصص الرمز والمجاز، كما ركز على الجوانب الاجتماعية والنفسية وابتعد عن الخوض فى الأمور الدينية التى تدخل فى صلب العقيدة، ولم يكن الطالب أو أستاذه ممن يمكن أن يوصفوا بمعادة الإسلام أو اتخاذ مواقف نقدية حادة من الفكر الدينى، لكن مصر وقتها كانت تعيش فى ظل حكومات لا تستند إلى الإرادة الشعبية، وكانت حركة الإخوان المسلمين فى مرحلة من مراحل صعودها، تسعى لفرض فكرها الدينى على المجتمع، وتقف فى صف حكومة الأقلية فى مواجهة الحركة الوطنية الديمقراطية الصاعدة فى صفوف طلاب الجامعة، القائمة على تحالف بين التيارات اليسارية فى حزب الوفد والتنظيمات الشيوعية، ويقف كبيرهم فى الجامعة كبير طلاب الإخوان ليشبه إسماعيل صدقى بإسماعيل عليه السلام، مستخدما آيات القرآن الكريم فى غير مواضعها.
فى هذا المناخ بدأ الهجوم على الرسالة وامتد إلى الطالب والأستاذ، ورفضت اللجنة منح الطالب الرسالة بأغلبية صوتين مقابل صوت واحد، ويبدو أن الصراعات الشخصية بين الأساتذة لعبت دورها هنا.
وبرفض الرسالة بدأت المعركة الحقيقية، وبدأ الأزهريون يكفرون خلف الله ويتهموه بالردة، وطالت اتهاماتهم الشيخ أمين الخولى، ودافع خلف الله عن موقفه مؤكدا أنه مسلم متدين، إلا أن منتقديه طالبوه بالتوبة ولوحوا له بتطبيق حد الردة عليه، كما طالبوا بإحراق الرسالة، ووقفه عن العمل هو وأستاذه الشيخ أمين الخولى، وبفصل الشيخ من مجلس أساتذة الأزهر، وتطهير المدارس والجامعات من الكفار، وإجراء تحقيق بمعرفة الأزهر فى الأمر، إلا أن الجامعة رفضت التدخل الخارجى من الأزهر فى شئون الجامعة، لكن كان على خلف الله أن يستقيل من عمله فى الجامعة كمعيد، وقد نشر الرجل رسالته ككتاب سنة 1953 بمقدمة للشيخ أمين الخولى.
وبعد ما يقارب الخمسين عاما يتكرر المشهد مرة أخرى فى قضية الدكتور نصر أبوزيد، الذى يعد من الباحثين البارزين بين أبناء جيله، وقد قرر الرجل أن يتطرق فى أبحاثه العلمية إلى قضايا التراث اللغوى والدينى، لكن المتربصين بحرية البحث العلمى كانوا له بالمرصاد، وعندما تقدم للترقى لدرجة الأستاذية رفض بعض أعضاء لجنة الترقيات بالجامعة بعض أبحاثه، وتحولت القضية إلى قضية رأى عام، وقرر البعض ملاحقته قضائيا ونجحوا فى استصدار حكم بالتفريق بينه وبين زوجته، ومن سخريات القدر أن أكثر الأساتذة تحريضا ضده باسم الدين وهو أستاذ بكلية دار العلوم واجه محنة التكفير بعدها بسنوات بسبب كتاب له حاول أن يجتهد فيه برأيه.