من سُبل توفير حياة كريمة والارتقاء بجودة الحياة
سامح عبدالله العلايلى
آخر تحديث:
الإثنين 4 مارس 2019 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
مع الإعلان عن مبادرات تهدف إلى معالجة بعض مواطن الوهن المتأصلة فى المجتمع، فإن رد الفعل الفورى لجمع كبير من الإعلاميين والمسئولين والمتخصصين هو الإشادة دون تحفظ بما يتم الإعلان عنه، دون مناقشة موضوعية لأى منهم لأبعاد ما يُطرح من جوانب عديدة.. مثل القدرات والإمكانيات المتوافرة لتفعيل هذه المبادرات وتكلفتها التقديرية ومصادر تمويلها، وهل هى مُدرجة فى الموازنة العامة كذلك العوائد المنتظرة لتنفيذها، وأهم من كل ذلك أين تقع هذه المبادرات على سلم أولويات العمل العام والتى يجب أن تحوز على اتفاق من أهل الخبرة... إلى آخره من مكونات ما يسمى بدراسات الجدوى الاجتماعية والاقتصادية، التى هى علم أصيل لا غنى عنه فى تقييم نواتج العمل التنموى، سلبا أو إيجابا، ذلك العلم الذى كان رائده فى مصر الراحل العظيم د. جلال أمين، حيث سجل فى عشرات المؤلفات آراء قيمه حول سُبل معالجة مواطن الوهن الاجتماعى الاقتصادى بإدارة التنمية الرشيدة التى ترتكز على دعامتين أساسيتين هما المجتمع والاقتصاد، لقد كان على من تعرضوا لهذه المبادرات الاسترشاد بما سطره د. أمين وغيره من علماء مصر قبل التسرع بالتأييد والإشادة دون الاستناد إلى مرجعيات موثوق بها، إن مثل هذه الدراسات هى أساس الحكم على مدى صلاحية المبادرات المطروحة وتقيمها برأى موضوعى يُحدد أو يصوب مسارها أو معارضتها إذا لزم الأمر،..
إن مطلب توفير حياة كريمة والارتقاء بجودة الحياة هو حق مشروع لجميع طبقات المجتمع وهو يتطلب عملا مُرشدا يستند إلى رؤية وعلم وخبرة، يبدأ مع حالات أقل طبقات المجتمع حظا وهما حالتى الفقر المُدقع والعوز، اللذين يُمثلان أقصى حالات الافتقار لأساسيات الحياة والتى يعانى منهما شريحة لا بأس بها من المجتمع، فإذا أردنا النهوض بهذه الشريحة فإنها تحتاج إلى معالجات على ثلاثة آجال... العاجلة منها هى توفير متطلبات الحياة الأساسية التى لا يمكن الاستغناء عنها مثل المأوى والطعام والعلاج، والتى هى مانعة لنمو الشرور بأشكالها، وفى المعالجة الآنية توفير الوسائل والدعائم اللازمة لتأهيل هذه الشريحة للانضمام إلى سوق العمل والرزق الحلال فى مجالات متنوعة، أما المعالجة المستقبلية فتتمثل فى توفير عوامل التوطن الآمن الدائم فى مستقرات تقع جغرافيا خارج الوادى والدلتا وفى رحاب أراضى البلاد الواسعة.. وما ذلك إلا مشروع نهضوى كبير يمس ملايين البشر ويتطلب استثمارات هائلة وكيان قوى قادر على إدارة منظومة العمل الهادفة إلى انتشال المستهدفين من حالة البؤس التى يعانون منها وحتى يتحولوا من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابية لصالح الجميع، ذلك المشروع يتطلب وضعه على رأس أولويات العمل لأنه استثمار فى البشر... مثلما جاءت نصائح بيل جيتس فى قمة الاتحاد الأفريقى بأن يتم الاستثمار فى البشر فى أفريقيا قبل أى استثمار آخر..
***
جانب آخر من ضرورات توفير حياة كريمة لكافة طبقات المجتمع، هو الارتقاء بجودة الحياة فى الفضاء العمرانى العام الذى تدهورت حالته تدهورا شديدا على مدى السنوات الماضية، مما تسبب فى انتهاك صارخ لحقوق أفراد المجتمع فى الاستمتاع بحياتهم فى هذا الفضاء، الذى كان يستوجب الحماية والاهتمام كما كان الأمر فى زمن البلديات الذى مضى.. من بين مظاهر الانتهاك المشار إليه التضاؤل المستمر لحيز الحركة للمشاة ونزهتهم وراحتهم لصالح حركة وانتظار السيارات بجميع أنواعها وأحجامها، ولاستخدامات أخرى لمختلف أنواع التعديات على هذا الحيز الهزيل الذى هو حق للمشاة، كذلك انتشار الفجاجة فى الذوق العام لعدم تناسق أحجام وأشكال وألوان البنايات المختلفة، وانتشار القاذورات والقمامة بدرجة مهينة فى جميع الأرجاء بالأزقة والطرقات وفوق أسطح المبانى، وهى قضية تستحق الاهتمام أكثر بمراحل من قضية طلاء واجهات المبانى، والتضاؤل المتعمد فى حيز المسطحات الخضراء والمفتوحة والساحات التى هى المتنفس الوحيد للغالبية العظمى من السكان، كذلك ارتفاع درجة الضوضاء النشاذ بدرجة مثيرة للأعصاب من جراء استخدامات مكبرات الصوت بحالة هستيرية فى المحال العامة والمساجد وآلات تنبيه السيارات، إضافة إلى الهجوم الكاسح لمساحات الإعلانات التجارية المتنامية فى كل حدب وصوب التى احتلت بدون وجه حق أجزاء كبيرة من الفضاء العمرانى العام، يضاف كذلك الانتشار المتنامى لظاهرة التسول بكافة أشكاله بالدرجة التى أصبح من المستحيل التفرقة بين المحتاج والمحتال.. وأخيرا غض البصر عن هدم المنشآت ذات الطابع التاريخى والتى هى جزء من ذاكرة المجتمع...
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى حدوث حالة توتر عام فى المجتمع وعدائية الأفراد للنظام العام بل ومحاولة كل فرد أو كيان فرض سلطته على الآخرين وانتزاع ما ليس له من حق فى ظل غياب نظام عام متكامل لجودة الحياة والسيطرة على جميع الخروقات فى الحضر والريف..
***
إن الفضاء العمرانى العام المنضبط الذى يتآلف معه الإنسان بالفطرة ويحفزه على الارتقاء بذوقه وسلوكياته وطموحاته مما يؤدى إلى تكوين مجتمع سوى تتسع ثقافته ومداركه كما يساهم فى تحسين علاقة وروابط مكونات المجتمع المختلفة بعضهم ببعض...
إن المسئولية الكبرى عن ما آل إليه حال الفضاء العمرانى العام تقع على عاتق جهات حكومية عديدة تعمل كل جهة منها بمعزل عن الآخرين، وعلى رأس هذه الجهات وحدات الإدارة المحلية المسئولة عن إدارة شئون العمران..
ولأن الأمر خرج عن السيطرة بحيث لا يمكن أن تنجح المحليات فى معالجة انتشار الفوضى العارمة المنتشرة فى جميع الإرجاء حتى ولو خلصت النوايا..
لذلك فإن الأمر يتطلب اتخاذ ما يلزم نحو تجميع خبرات من داخل وخارج البلاد وتكليفهم بوضع خريطة طريق بعيدة المدى متدرجة التنفيذ لمعالجة هذه الأوضاع المدمرة لقيم كثيرة بطرق غير تقليدية وحاسمة، على أن تلتزم السلطات المعنية بتنفيذ مقترحات ملتقى الخبرات المشار إليه وبالجدية والاهتمام اللازمين، إن ذلك المطلب المشروع ليس من أحلام اليقظة أو الخيال العلمى، ولكنه الطريق الوحيد لمواجهة أوضاع العمران المصرى الذى أصابه ما أصابه.