فراعنة من؟... علم الآثار الوطنى والإمبريالى
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 مارس 2025 - 11:09 م
بتوقيت القاهرة
رحلتنا اليوم مع كتاب صدر عن دار نشر جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة فى عام 2002. والكتاب غامض فى عنوانه، بالغ الأهمية فى مضمونه، للمؤرخ الأمريكى دونالد مالكولم ريد، وقد نقله للعربية المؤرخ الراحل د. رءوف عباس وصدر عام 2005 ضمن إصدارات المشروع القومى للترجمة.
ورغبةً فى توضيح العنوان الرئيس المبهم -«فراعنة من؟»- يأتى العنوان الفرعى جليا كاشفا: علم الآثار والمتاحف والهوية القومية المصرية من حملة نابليون حتى الحرب العالمية الأولى.

وفى المقال الحالى نتناول عرضًا لمقدمة الترجمة التى أعدها د. رءوف عباس، ونعرف منها الموضوعات التالية:
الإمبريالية وعلم الآثار.. رفقاء طريق
فى مقدمته للترجمة يوضح رءوف عباس أن علم الآثار المصرية «المصريات Egyptology» من أحدث العلوم الإنسانية إذ يرتبط بفك طلاسم الكتابة المصرية القديمة الذى تم عام 1822 بفضل جهود العالم الفرنسى شامبليون الذى عكف على دراسة حجر رشيد الشهير فى المتحف البريطانى، بعد أن أخذه الإنجليز معهم عندما جاءوا إلى مصر لإخراج الفرنسيين منها.
ويوضح رءوف عباس أن مؤلف كتابنا هذا ذهب إلى القول بأن علم الآثار سار مع الإمبريالية والهيمنة الغربية يدا بيد، فهناك من علماء الغرب، ورحلاته، وقناصله - فى مصر وغيرها من البلاد التى كانت تخضع للدولة العثمانية - من كانوا يرون أن أهل البلاد لا حق لهم فى تلك الآثار التى يتم العثور عليها، فهم لا يقدرون قيمتها، ولا يعنيهم من أمرها إلا ما قد يدره عليهم بيعها من مال، والأولى بها الأوروبيون الذين يفردون لها الأماكن اللائقة بها فى متاحفهم باعتبارها تراث الإنسانية. ومن ثم فلا علاقة للمصريين أو العراقيين أو الفلسطينيين (المتخلفين) بما يتم العثور عليه من آثار فى بلادهم، فهى تخص حضارات أرقى لا يمت إليها أولئك (الهمج) بصلة.
يمضى المترجم فى تلخيص فكرة الكتاب وأطروحته بالقول إن المؤلف سعى فى كتابه إلى دحض هذه التهم والافتراءات متخذًا من حالة مصر ومن علم المصريات مدخلاً للدراسة.
يعدد مؤلف الكتاب أسماء المؤرخين المصريين الذين وضعوا كتبًا تحمل عنوان «الخطط» وذكروا فيها الآثار المصرية وقدموا وصفًا لها فى العصر الذى كتبوا فيه قبل القرن التاسع عشر بعدة قرون، ولكنه يلقى المزيد من الضوء على اهتمام الشيخ عبد الرحمن الجبرتى ورفاعة رافع الطهطاوى وعلى باشا مبارك لا بالآثار وحدها، ولكن بتاريخ مصر القديم وآثارها.
ومن ثم يصبح اتهام المصريين خصوصًا والعرب عمومًا، بعدم إدراك القيمة التاريخية للحضارات القديمة التى قامت فى بلادهم مجرد مبرر- من وجهة نظر الاستعمار لاستلاب المصريين آثارهم الثمينة لتعمر بها متاحف أوروبا، ولتزدان ميادينها بالمسلات المصرية.
وإذا كان النصف الثانى من القرن التاسع عشر يمثل عصر نضج الثورة الصناعية فى أوروبا، الذى يشهد هيمنة غرب أوروبا على الأسواق العالمية لتصريف بضاعتها واستثمار فائض رءوس أموالها، وضمان الحصول على المواد الخام اللازمة للصناعة بأباخس الأثمان، فهو العصر الذى لعب فيه الأوروبيون الدور الرئيسى فى وضع أسس «علم المصريات» وفى إرساء دعائم علم الآثار والعناية بها، وإقامة المتاحف فى مصر.
ففيما بين عامى 1858 و1908 سيطر الأوروبيون على الإدارة التى عنيت بالآثار، وعلى المتاحف التاريخية الأربعة التى أقيمت خلال تلك الفترة، ومن ثم سيطر الأوروبيون على الآثار المصرية فى الوقت الذى كانوا يحكمون فيه السيطرة على مصر ذاتها من خلال الهيمنة على اقتصادها وماليتها ثم احتلالها.
جهود وطنية
صحيح أن المصريين عرفوا علم الآثار الحديث عن طريق الأوروبيين، إلا أنهم سرعان ما لبثوا فى العمل على امتلاك ناصيته وتوظيفه لخدمة أمانيهم الوطنية. وقد أورد المؤلف ذلك ــ ولخص لنا المترجم ــ فى المراحل التالية:
• كان سعيد باشا هو أول من أنشأ متحفًا للآثار الفرعونية عام 1858، وإدارة للآثار، رأسهما معا مارييت بك الفرنسى. وفى عام 1859، فى عهد سعيد باشا أيضًا قامت مجموعة من نخبة الجاليات الأجنبية فى مصر بتأسيس «المجمع المصرى» فى مدينة الإسكندرية، التى كان الوجود الأجنبى فيها كثيفًا، وجاء إنشاء «المجمع المصرى» مصاحبًا للبدء فى أعمال حفر قناة السويس. وقد كانت ذكريات «المجمع العلمى المصرى» الذى أقامه نابليون بونابرت فى مصر أيام الحملة الفرنسية حاضرة فى أذهان مؤسسى المجمع المصرى، فأرادوا إحياءه تحت رعاية الوالى محمد سعيد باشا، على أن يصبح اهتمامه مركزًا على الآثار المصرية والتراث المصرى القديم.
• ثم انتقل «المجمع المصرى» إلى القاهرة عام 1880 ورغم أن الأجانب كانوا يمثلون أغلبية أعضاء المجمع المصرى، فقد وجدت نخبة من العلماء المصريين لنفسها مكانًا بين الأعضاء، وكان على رأس تلك النخبة رفاعة الطهطاوى وإلى جانبه على باشا مبارك ومحمود الفلكى.
وقام محمود الفلكى بإلقاء محاضرات حول تاريخ مصر القديم، وقدم دراسة لفرع النيل الكانوبى الذى كان يصل فرع رشيد بالإسكندرية، وقد نشرت دراسات الفلكى بالفرنسية فى عدد من الدوريات العلمية الأوروبية الشهيرة عندئذ، وانضم أحمد كمال (أول عالم آثار مصرى) إلى المجمع عام 1904.
• ثم أسس الخديوى إسماعيل عام 1869 أول مدرسة مصرية عليا لدراسة المصريات عرفت باسم «مدرسة اللسان المصرى القديم» وقد تولى نظارتها عالم الآثار الألمانى هنريش بروجش، والتحق بالمدرسة عشرة من الطلاب المصريين الذين اختيروا من بين المتفوقين فى اللغة الفرنسية، باعتبارها لغة التدريس بالمدرسة، وقد درس أولئك التلاميذ الكتابة المصرية القديمة واللغة القبطية، إضافة إلى الألمانية والإنجليزية، وتاريخ مصر القديم، وأصول علم الآثار. وفى تلك الفترة تدرب طلاب مدرسة اللسان المصرى القديم على الحفائر الأثرية فى الصعيد. وفى عام 1872 تخرج فى هذه المدرسة سبعة طلاب كان على رأسهم أحمد كمال (الذى أصبح أول عالم مصريات مصرى فيما بعد).
• إلى جانب إدارته لهذه المدرسة وتكوينه للطلاب المصريين، قام هنريش بروجش بإلقاء محاضرات فى تاريخ مصر القديم بدار العلوم، كان يلقيها بالفرنسية، ويترجمها أحد تلاميذه أو معاونيه إلى العربية ونشرت فى مجلة «روضة المدارس المصرية» التى كان رفاعة الطهطاوى يرأس تحريرها ونشرت المجلة مقالات بروجش مترجمة إلى العربية، وضمت هذه المقالات جدولاً بملوك مصر القدامى، ومقالات فى أصول الكتابة المصرية القديمة بالمجلة نفسها، مما أتاح فرصة نشر المعرفة بالمصريات وتاريخ مصر القديم لأول مرة باللغة العربية.
فى هذا السياق يضع المؤلف أمام القارئ صورة الصراع الذى دار بين المصريين والأجانب من أجل تحرير بلادهم من الهيمنة الأجنبية، ويعالج العلاقة بين الرواد أحمد كمال وعلى بهجت والأجانب فى سياق العمل الوطنى الذى يهدف إلى الحفاظ على الهوية المصرية، ويحرص فى خاتمة الكتاب على أن يلقى الضوء على ما حدث لعلم الآثار من تطورات بعد ما ملكت مصر أمرها بيدها، وما تركته الكشوف الأثرية المهمة.
محاولة قتل الحلم فى مهده
نعرف من مؤلف الكتاب ومقدمة الترجمة أنه بعد أن تخرجت أول دفعة من «مدرسة اللسان المصرى» رفض مارييت باشا ــ مدير الآثار ــ قبولهم للعمل بإدارة الآثار خشية أن يؤدى وجودهم فيها إلى إنهاء الوجود الأوروبى وخاصة الفرنسى. وكان قد بدأ يضيق على الطلاب منذ افتتاح المدرسة، فأصدر أوامره لموظفى المتحف بمنع الطلاب من نسخ النصوص المصرية القديمة، ولما لم يجد أولئك الخريجون مكانًا لهم فى مجال الآثار، عينوا مدرسين ومترجمين للغتين الفرنسية والألمانية.
وهكذا بددت السيطرة الأوروبية على إدارة الآثار الجهود التى بذلها إسماعيل لإعداد أول أثريين مصريين، وترتب على ذلك إغلاق مدرسة اللسان المصرى القديم فى نفس السنة التى تخرج فيها أولئك الطلاب السبعة.
ورغم ذلك أثمرت جهود المدرسة وناظرها، وما نشرته مجلة «روضة المدارس المصرية» من محاضرات الدكتور بروجش فى دار العلوم وغيرها من المقالات والدراسات التى نشرت مترجمة إلى العربية أو كتبها بعض طلاب المدرسة، أثمرت فى نشر الوعى بتاريخ مصر القديم بين المتعلمين ورجال السياسة، وتجلى ذلك فى الخطاب السياسى والثقافى الذى تغنى بمجد مصر القديم.
واستمر أثر ذلك أيضا فى كتابات رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وميخائيل عبد السيد، أو فى أحاديث السيد جمال الدين الأفغانى وأحمد عرابى وعبد الله النديم، أو فى تصميم الجناح المصرى فى معارض لندن وباريس والولايات المتحدة على النسق الفرعونى، أو فى اتخاذ الأهرام وأبى الهول رمزًا لمصر على طوابع البريد وغيرها، واتخاذ «الأهرام» اسما لأبرز الصحف التى صدرت فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وفى المقال القادم نعرض العوامل الأربعة التى أحاطت بظهور علم المصريات.