الماضى.. والتاريخ

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 4 مارس 2025 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

 الماضى هو ما حدث، والتاريخ هو الوعى بما حدث. الماضى نعيه، ونكتب عنه، ونستعبره، أى نستخرج منه العبر، وتتشكّل النظرية ويصير لدينا رؤية تاريخية تفسّر، وتؤوّل ما حدث، الذى يتنامى ويتحوّل إلى حلقات فى سلسلة لا تنقطع، وكل منها تؤدى إلى أخرى. ويصير كل حدث سببًا لآخر أو ناتجًا عنه. لا نستطيع أن نأخذ الحدث بمعزل عما قبله وما بعده، فيصير هو ذاته غير ممكن.

يُسمى ابن خلدون رائعته التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر فى أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوى السلطان الأكبر». وفى هذا العنوان يختصر التعريف بكتابه الذى يتألف من خمسة عشر جزءًا، اثنان منها للمقدمة (طبعة دار صادر، وهناك طبعات أخرى اختلف فيها الترتيب). القول فى العادة أننا نقرأ التاريخ، وعندما يُقال «نقرأ الماضى» فإن ذلك على سبيل المجاز. يختلف التاريخ عن العلوم المادية كالفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا. إن الحوادث فيه لا تتكرر، بالأحرى لا يمكن أن يجعل منها الإنسان تجارب، يبادر هو بها. لكن فى التاريخ لكل موضوع مسارات، تتعرّج فى تطورها، وليس لها خط مستقيم. والوعى المغلق أو «العقل المغلق» لا يرى إلا مسارًا واحدًا بينما الوعى المفتوح يرى للحدث الواحد عدة مسارات أو احتمالات. الأول ينتهى إلى مذهب مغلق، والثانى تتعدد فيه المذاهب التى لا يهتم أصحابها إذا كانت مذاهب متعددة أو مذهبًا واحدًا. الأول يُتعب أصحابه، الثانى يقودهم إلى تعدد أوجه الحقيقة. بالأحرى الحقيقة عندهم متعددة بذاتها.

• • •

فى العلوم الحديثة، يجرى الباحث الأبحاث فى مختبر ما، فيستخرج منها النظرية أو الرواية لأحداث أخرى تحدث تلقائيًا، وتصل إلى النتائج المؤدى إليها فى المختبر. فيقود تشابه الأسباب والأحداث والنتائج إلى القواعد النظرية. أما التاريخ، فأحداثه لا يمكن التحكم بها، وعلى المرء أن يستخرج الرؤى والنظريات من مساراتها.

الماضى أحداث ليس لها مسار، وهى منقوشة فى صخر الزمان. وكل حدث يفترض أن يكون قائمًا بذاته. ولا روابط بين الأحداث، بما يشكّل مسارات لها، إلا فى العقل أو الوعى. الوعى فى الماضى هو التاريخ، أى هو ما نراه ونكتبه أو ما نتشابه به.

وللتاريخ الشفهى أهمية لا تقل عن التاريخ المكتوب. إذ كل رواية شفهية تزيد أو تنقص أحداثًا، يحتاج إليها المسار بنظر صاحبه (كلما رويت)، الذى يريد أن يتطابق المسار مع رؤيته أو مشاعره، فيصادر الماضى لصالح ما يراه.

التاريخ بموجب العلم الحديث يقتضى أن يكون موضوعيًا فى محاولة أن يكون التدخّل الذاتى أقل ما يمكن. وبالطبع لا يمكن الحؤول بالمطلق دون توحش الذات ومنعها من اقتيات فريسته. لكن السعى فى سبيل ذلك، أى الموضوعية، واجب وإلا جاء العلم بالموضوع خارج ما هو حقيقى. والحقيقة فى التاريخ صعبة المنال. يتطلّب الوصول إليها، بالأحرى السعى وراءها، الكثير من التساؤل، وكبح الذات، وخفض التوتر العصبى. فما هو حقيقى لا يستخرج إلا من بحث تتعدّد فيه المسارات.

عندما نتحدث عن مسار الأحداث يكون الكلام عن العلاقات بينها. فكل حدث مغموس فى علاقة اجتماعية، وهذه غالبًا ما يفرضها أهل السلطة. ولذلك قيل التاريخ يكتبه الغالبون أو الحاكمون، بينما الواقع بأحداثه ومساراته يصنعه الناس بما فيهم المغلوبون. فى فلسطين وما حولها تكتب إسرائيل التاريخ المعاصر، لكنها لا تستطيع صنعه إلا جزئيًا، وبالقسر والعنف الوحشيين. وهذا هو مأزقها. فهى بحاجة دائمة إلى دعم الامبريالية الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، وإلى الرأى العام العالمى الذى تراه ينقلب ضدها باستمرار، لا نتيجة ما يفعله العرب بل بسبب ارتكاباتها الإجرامية. بدليل أنها قبل حروبها الأخيرة علينا وخلالها، رأيناها موضع اتهام لدى الرأى العام العالمى بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو بشن حروب إبادة جماعية.

• • •

التاريخ مسارات زمانية ومكانية. غالبًا ما نعتقد أن التاريخ تسلسل زمنى، ونغفل أنه علاقات بين الأحداث فى الأمكنة. فما يحدث فى مكان ما يؤثر ويتأثر بما يحدث فى الأماكن الأخرى من العالم، بالأحرى الكرة الأرضية. فإذا تحرّك جناح فراشة فى بغداد يكون له أثر تصل ذبذباته إلى الصين، كما يقال بكلمات أخرى. وعندما تكتب التاريخ عن منطقة ما، لا يغيب عنك، أو لا يجوز أن يغيب عنك، الأثر أو السبب الذى يمكن أن يكون فى منطقة أخرى؛ فالتاريخ بطبيعته عالمى الأثر والتأثير.

• • •

إن الكتابات التاريخية مهما كانت موضوعية، لا بدّ أن تتأثر بايديولوجيا أصحابها، حتى لو كانت المقاربة جادة فى حياديتها. على كل حال هناك فرق بين الحيادية والموضوعية. فهذه الأخيرة ضرورية فى كل الظروف، ومن الواجب السعى إليها كى يكون البحث ذا قيمة معرفية.

أما الحيادية فهى تتناقض فى معظم الأحيان مع الواجبات الأخلاقية، إذ العالم الذى نعيش فيه ما زال مشبعًا بالامبريالية أو الكولونيالية. ومسارها يخضع لسلطة المال من دون أولوية للبشر فى إنسانيتهم. فالربحية هى الأولوية الأولى التى تسيطر على أرباب النظام العالمى الراهن وروحه.

نحن أمة فخورة بتراثها الثقافى والأدبى، لكن التراث العلمى فى الرياضيات والفلك والميكانيكا والبيولوجيا والطب، إلخ.. لا يقل أهمية. وما نحتاجه هو مراكز أبحاث ومراكز تفكير، كى لا يبقى الجهد فرديًا.

لم يعد باستطاعتنا، مثلًا، تنمية ثقافتنا الراهنة من دون كتابة التاريخ الاقتصادى، كما يفعل أنجوس ماديسون بتكليف من المنظمة الأوروبية للتعاون (OEC) حول التاريخ الاقتصادى لمجال الدول الغربية، وتقدير الدخل الفردى منذ مطلع الألفية الأولى بعد المسيح حتى اليوم. وقد سبق أن فعل ذلك رؤساء وزراء بريطانيون مثل وليم بيت الأب والابن فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وسبقهم فى ذلك أناس من العامة.

التاريخ العالمى ضرورى لنا. وما هو أكثر إلحاحًا كتابة تاريخنا الكلى الذى يشمل البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية، وأساليب الحياة والعيش لدى الفلاحين، وأصحاب الحرف والمهن اليدوية.

• • •

إن معرفة المسارات التاريخية لمجتمع يؤدى إلى معرفة هذا المجتمع لذاته، أو إلى كيف يتخيّل المجتمع ذاته. وفى كثير من الأحيان تكون الجماعة متخيلة كما قال بندكت أندرسون. المعرفة التاريخية تشكّل الخيال التاريخى حول الماضى أو ما يُسمى الذاكرة التاريخية. ولا مجتمع بدون مخيال تاريخى. ومن لا تاريخ له (إذا كان ذلك ممكنًا) يخترع هذه الذاكرة. ويعيد اختراع الأمة أو المجتمع، كما كان يقول أريك هوبسباوم. فالمجتمع يحتاج إلى الماضى فيشكّل مساراته ويجعله ذاكرة، ومهمة المؤرخ هى التمييز بين الواقعى والوهمى من أحداث تاريخية. وكلما اقتربت الذاكرة التاريخية من الواقع التاريخى يصير المجتمع أكثر سلامة وانسجامًا بين أطرافه؛ وتلك عملية معقدة، وربما تعددت الذاكرة التاريخية فى المجتمع، وبالتالى تتعدد الهويات، فما يوحّد بينها أو يقرّب الواحدة إلى الأخريات لدمجهم معًا ربما هو السياسة التى تفرض العيش سوية وتفترضه.

مهما كان الأمر، لا بدّ من تجاوز الماضى أو ما يسمى التراث، ودون ذلك نكون كمن لا يستطيع صنع مستقبله. ندرس الماضى كى نتجاوزه ونصنع المستقبل ويصير عندنا تاريخ. الذاكرة الماضوية تشدنا إلى الوراء إن لم تصر ذاكرة تاريخية. فالماضى كما قلت سابقًا منقوش فى صخر الزمان، والتاريخ مسار متحرّك لا يتوقف فيه التطوّر والتجاوز.

نعانى من البؤس حين لا يكون لدينا يقين بأننا نستوعب الماضى من أجل تجاوزه، وعند ذلك يكون التاريخ عبئًا على أصحابه. والجماعات الواثقة من نفسها تمتلك القدرة على التجاوز، فتصنع المستقبل كما تقبض على الماضى، وتعيد صياغته، لا صياغة المستقبل كما الماضى، بل صياغة الماضى كما يراد أن يكون المستقبل. ودون معرفة المسارات والسياقات لا يمكن القبض عليها وتقرير كيف يراد العيش.

فمن الضرورى القول مرة أخرى إن الماضى أحداث لا تتراكم، وليس لها مسارات، بينما التاريخ مسارات تكون فيها الأحداث نقاطًا فى سلسلة متصلة لا انقطاع فى تسلسلها.

الفضل شلق

موقع 180

النص الأصلى:

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved