حرب بلا نهاية بين روسيا والشيشان
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 4 أبريل 2010 - 9:58 ص
بتوقيت القاهرة
فى عام 1851 كان بين القوات الروسية التى غزت مدينة غروزنى الشيشانية عسكرى شاب يبلغ من العمر 22 عاما. سجل هذا العسكرى وصفا للمعارك التى جرت فى ذلك الوقت فقال: «لقد تم قتل المدنيين من كل الأعمار، دمرت بيوتهم، وأحرقت مزارعهم، وفيما كان الشيشانيون يصلون فى المساجد على جثث أطفالهم بدا وكأن الكراهية لا تكفى لترجمة حقيقة مشاعرهم تجاه الروس. فبالنسبة للشيشانيين فان ضراوة الهجوم الروسى جعلتهم يتصرفون كالفئران أو العناكب السامة أو الثعالب بحيث إن الرغبة فى القضاء عليهم بدت لدينا طبيعية مثل غريزة حب البقاء».
لم يكن هذا الجندى الشاب سوى ليو تولستوى، فقد ظلت المشاهد الوحشية للغزو الروسى ترافقه طوال حياته حتى إنه صور تلك المشاهد فى أول قصة له صدرت فى العام 1852 كما سجلها فى آخر رواية صدرت له فى العام 1904.
انضم تولستوى إلى الحملة الروسية ضد الشيشان لإبعاده عن موسكو بحجة أنه كان يبدد ثروة العائلة على النساء والقمار، ثم عمل لعدة أسابيع مع وحدة عسكرية كانت برئاسة شقيقه نيقولاى قبل أن ينضم بعد ذلك إلى سلاح المدفعية.
بدا لتولستوى أن غزو غروزنى عاصمة الشيشان له مبرراته السياسية، وذلك لضمان استقرار الأراضى الروسية المجاورة. ولكن تولستوى لم يكن مرتاحا للوحشية التى اعتمدت أثناء العمليات العسكرية. ولقد توقف تولستوى فى عام 1852 أمام وقائع تبدو مماثلة لما شهدته الشيشان منذ عام 1994 حتى اليوم.
فقد تساءل: «هل أن العدالة تقع فى جانب الجندى الروسى الذى جاء إلى الشيشان بحثا عن المجد لأمته، أو فى جانب المقاوم الشيشانى الذى ينظر إلى بيته الذى تأكله النيران وإلى عائلته المختبئة تحت الأنقاض ويمتشق بندقية قديمة ويطلق عدة طلقات فى وجه الروس الزاحفين قبل أن تمزق حرابهم جسده»؟
وقد حذفت الرقابة الروسية فى ذلك الوقت هذا المقطع من الرواية، غير أن العديد من الكتاب والصحفيين الروس أشاروا إلى مثل هذه الوقائع فى مقالاتهم عن حرب الشيشان 1994 الأمر الذى عرضهم لتهمة الخيانة، وهو ما ردده حتى رئيس الحكومة السابق بريماكوف.
ورغم أن تولستوى خدم عدة سنوات فى الجندية ضد الأتراك فى أوروبا الشرقية، وضد الانجليز والفرنسيين فى القرم، فإن غزو غروزنى هو الذى فجر مشاعره الإنسانية التى انطلقت من التساؤل: متى يكون العنف مبررا؟ قاده هذا التساؤل إلى طريق أوصلته إلى الإيمان بضرورة معارضة الحرب واعتناق مبدأ مقاومة الشر باللاعنف.
فى عام 1900 وصلت رواية تولستوى إلى محام هندى كان يعمل فى جنوب إفريقيا وكان يقلقه احتلال بريطانيا لبلاده. اكتشف هذا المحامى الشاب أن المقاومة غير المسلحة ضد الظلم يمكن أن تكون أداة فعالة لتحقيق تغيير سياسى جذرى. وبالفعل تمكن المهاتما غاندى من تحرير الهند من الاحتلال ومن استرجاع درة التاج البريطانى من دون إطلاق رصاصة واحدة، سوى تلك التى أودت بحياته من مسدس هندوسى متعصب.
هذا الدرس تعلمه أيضا فى الولايات المتحدة، الداعية الأسود مارتن لوثركنج الذى كان يقرأ نصوص تولستوى عن غروزنى فى الكنائس الأمريكية أثناء مواعظه الدينية. وقد وصف مارتن لوثر فى إحدى خطبه تولستوى بأنه شبيه بالقديس بطرس الذى تحول إلى المسيحية وهو فى طريقه إلى دمشق.. مشيرا إلى تحول تولستوى إلى اللاعنف وهو فى طريقه من غروزنى.
ولكن هذا الدرس الإنسانى البليغ لم يتعلمه الكثيرون ليس من قادة الكرملين فحسب، إنما من قادة الشيشان أيضا، الأمر الذى أدى إلى الجريمة المروعة التى شهدها قطار الأنفاق فى موسكو وما سبقها من عمليات مماثلة وما تلاها من ردود فعل روسية انتقامية.
كانت للقياصرة الروس منذ القرن العاشر الميلادى أطماع توسعية فى القوقاز. وكان الشيشان يشكلون الخندق الأمامى فى وجه التوسع الروسى. ولذلك كانوا فى حالة صراع عسكرى دائم معهم، لم يتوقف إلا أثناء الغزو المغولى للمنطقة ولروسيا نفسها، والذى استمر قرابة ثلاثمائة عام.
وبعد انحسار المد المغولى عاد الروس إلى التوسع فى القوقاز واحتلوا مناطق إستراتيجية من أراضى الشيشان. إلا أن الشيشانيين والشركس والداجستانيين استطاعوا أن يدحروا القوات الروسية (فى عهد كاترين الثانية) فى عـام 1783 بقيادة الشيخ منصور الشركسى. شنت روسيا القيصرية 20 حربا ضد العثمانيين الأتراك استغرقت 15 عاما وشنت 60 حربا ضد الفرس الإيرانيين استغرقت 94 عاما. وشنت 21 حربا ضد مسلمى آسيا الوسطى استمرت 31 عاما.
الاحتلال الروسى الاستيطانى فى شمال القوقاز لم يحدث إلا فى وقت متأخر، وذلك عندما استغلت روسيا القيصرية الصراع الإيرانى (الصفوى) ــ التركى (العثمانى). فقد استفردت كل منهما لتثبيت أقدامها فى القوقاز. بدأت بإيران فى عام 1828 عندما عقدت معها معاهدة «تركمانكاى» والتى اعترفت إيران بموجبها للقيصر الروسى بالسيادة على القوقاز.
وفى العام التالى 1829 اضطرت تركيا إلى التوقيع على معاهدة مماثلة مع روسيا تخلت لها بموجبها عن جورجيا وايمرتيا.
التخلى الإيرانى والتركى عن القوقاز أيا تكن أسبابه أو مسبباته، لم يمكن روسيا من ابتلاع القوقاز لقمة سائغة. فقد قامت الثورة الشيشانية الأولى ضد الاحتلال الروسى بقيادة غازى مله. وفى عام 1840 قامت ثورة الأبخاز والشركس بقيادة الشيخ شامل.
وعندما وقعت حرب القرم فى عام 1855 بين تركيا وروسيا لجأ مئات الآلاف من الشركس إلى بلغاريا التى كانت فى ذلك الوقت جزءا من تركيا، مما أدى إلى تراجع قوة الثورة القوقازية ضد روسيا. مع ذلك اندلعت فى عام 1859 الثورة الشيشانية الثانية التى استمرت سنة كاملة ولما سيطر الروس فى عام 1860 على المنطقة صادروا الأوقاف الإسلامية وأخضعوا بناء المساجد أو حتى إعادة ترميمها إلى موافقة مسبقة ليس فقط من السلطات الروسية الحكومية، بل من الكنيسة نفسها!.
إذا كانت حرب الشركس والشيشان والأبخاز والداجستانيين فى القوقاز ضد الاحتلال الروسى القيصرى انتهت بمأساة الهجرة، فان حربهم ضد الاتحاد السوفييتى الشيوعى كانت أكثر مأساوية.
لقد مرت علاقات القوقازيين بالكرملين الشيوعى فى ثلاث مراحل أساسية:
كانت المرحلة الأولى فى عام 1923 عندما عقد مؤتمر عام لمسلمى روسيا. فى ذلك المؤتمر طالب الشيشانيون، كمال أتاتورك، بإعادة الخلافة الإسلامية وبإعلان نفسه خليفة على المسلمين حتى يستقطب مسلمى القوقاز ويساعدهم على تحرير بلادهم من الاحتلال الشيوعى. ولكن أتاتورك كان فى وادٍ آخر. كان يتطلع إلى الغرب مديرا ظهره إلى الشرق فتخلى عن الإسلام على أمل أن تحتضنه أوروبا، ولكن أوروبا التى ساعدته فى الأمر الأول، لاتزال حتى اليوم تحول دون قبول تركيا عضوا فى مجموعة دولها.
وكانت المرحلة الثانية فى عام 1930 عندما أمم الاتحاد السوفييتى الأراضى وصادر ممتلكات القبائل الشيشانية. فاعتبر الشيشانيون ذلك بمثابة انتقال لأراضيهم من «الملكية الإسلامية إلى ملكية الإلحاد»، فثاروا ضد التأميم واصطدموا بالجيش السوفييتى.
أما المرحلة الثالثة فقد جرت أثناء الحرب العالمية الثانية عندما وصلت القوات الألمانية فى تقدمها إلى القوقاز الشمالى. وجد الشيشانيون والشركس والتتار وغيرهم من سكان القوقاز فى الألمان عونا لهم ضد الشيوعية ووجدت ألمانيا فى معاناة هذه الشعوب حصان طروادة لضرب الاتحاد السوفييتى من الداخل. ولكن عندما خسرت ألمانيا الحرب وانسحبت جيوشها من القوقاز، قام الرئيس السوفييتى جوزيف ستالين بعملية انتقام جماعية ضد شعوب القوقاز؛ تمثل ذلك فى تهجير هذه الشعوب ونقلهم فى العربات المخصصة للحيوانات إلى سيبيريا حيث مات منهم هناك مئات الآلاف.
استمر هذا الوضع حتى عام 1956 عندما أعاد الاتحاد السوفييتى النظر فى سياسة ستالين وقرر مجلس السوفييت الأعلى تجديد اعترافه بالأمة الشيشانية وسمح للشيشانيين بالعودة إلى وطنهم الأصلى، ولكن العودة من سيبيريا إلى الوطن الأم لم تضع حدا للحرمان الذى كانوا يعانون منه. حتى أن ميخائيل جورباتشوف (آخر رئيس للاتحاد السوفييتى) اعترف أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعى فى 19 سبتمبر 1989 بأن الشيشانيين محرومون من التنمية وبأن تخلفهم يعود فى الدرجة الأولى إلى هذا الحرمان.
من هنا يمكن القول: إن الحرب الأولى ضد الشيشان جرت فى العهد القيصرى. وأن الحرب الثانية جرت فى العهد الشيوعى. أما الحرب الثالثة اليوم فإنها تجرى فى العهد الديمقراطى الإصلاحى الذى بدأ بالرئيس بوريس يلتسين والمتواصل مع الرئيس فلاديمير بوتين ومع الرئيس ميدفيديف.
لقد كانت جمهورية الشيشان أول جمهورية تعلن استقلالها بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتى، وذلك بعد فشل محاولة الانقلاب ضد جورباتشوف فى أغسطس 1991 مباشرة. وفى أكتوبر من العام نفسه، نظم جوهر دوداييف استفتاء شعبيا حصل بموجبه على ثقة شعبه بالرئاسة.
فروسيا متمسكة بالسيادة على الشيشان ليس فقط لأهميتها كممر للنفط الأذرى إلى البحر الأسود، ولكن لأنها تشكل أيضا سدا واقيا للدفاع عن حوض بيكا الذى يعتبر أكبر منتج للحبوب فى كل روسيا. ثم إن استقلال الشيشان من شأنه أن يفتح ملف التطلعات الاستقلالية لدول القوقاز وحوض الفولجا (وهى دول إسلامية بأكثريتها).
من أجل ذلك يعتبر الكرملين أن الخط الأمامى للدفاع عن وحدة روسيا الاتحادية يقع فى الشيشان. ومن أجل ذلك أيضا يتهم الكرملين قوى غربية باستغلال القضية الشيشانية بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، لضرب الوحدة الوطنية فى روسيا. ويبدو أن اتهامات الكرملين لها ما يبررها، الأمر الذى يضع القضية الشيشانية بين فكى تناقض المصالح الإستراتيجية بين روسيا.. والغرب.