لا تترك القاهرة فرصة إلا وتؤكد عدم إدراك صانعى القرار بها لتفاصيل وتعقيدات عملية صنع القرار الأمريكى فى ظل معادلة توزيع الصلاحيات بين البيت الأبيض ومجلسى الكونجرس فيما يتعلق بالشأن الخارجى. وضاعف الغرام الحكومى الرسمى المصرى بالرئيس ترامب من سطحية الفهم الحكومى المصرى لآليات عمل العاصمة الأمريكية. وعلى الرغم من استعانة القاهرة بشركات لوبى وعلاقات عامة تكلفها ملايين الدولارات سنويا، فإن المردود شديد الضعف، وربما لا تدرك الأجهزة السيادية المصرية ذلك بسبب عدم فهمها بداية لتفاصيل وتعقيدات عملية صنع القرار الأمريكى، وهو ما قد تستغله شركات اللوبى فى تبرير عدم حصول القاهرة على غاياتها من إدارة الرئيس ترامب.
***
فى الأول من الشهر الحالى، اعتمد مجلسا الكونجرس ميزانية تكميلية لتسيير شئون الحكومة الأمريكية حتى نهاية سبتمبر القادم. وتضمنت الميزانية ما يتعلق بالمساعدات الأمريكية التى تقدمها واشنطن لحلفائها حول العالم، العسكرى منها والاقتصادى. وتجاهل الإعلام المصرى ــ عمدا أو جهلا ــ ما يتعلق بمصر فى مشروع قرار الميزانية الذى جاء فى 1665 صفحة ومتاح نصه مجانا عبر الإنترنت. لم تمس الإدارة الأمريكية وضعية المساعدات العسكرية البالغة قيمتها السنوية 1.3 مليار دولار سواء فى قيمتها أو طبيعتها أو شروطها. أما الشق الاقتصادى من المساعدات فتم تخفيضه بنسبة 25% ليبلغ 112.5 مليون دولار بدلا من 150 مليون. ولا يعود هذا التخفيض إلى أى أسباب سياسية مباشرة، بل جاء ترجمة للتخفيض الذى حل بميزانية وزارة الخارجية الأمريكية والذى وصل لنسبة 29%.
إلا أن أهم ما يتعلق بالشأن المصرى، وتم تجاهله إعلاميا، تعلق بإدراج مصر ضمن الدول التى تتمتع بضمانات قروض أمريكية، وهو ما يتيح لمصر اقتراض ملايين ومليارات الدولارات. وتسمح القوانين الأمريكية لبعض الدول المختارة بعناية أن تضمن ديونها الحكومة الأمريكية، وهو ما يسمح بحرية حركة لمصر فى الحصول على قروض خاصة من مصارف أمريكية، وربما تتيح هذه الخطوة تقليل نسبة الفوائد (مقارنة بالنسب التى توضع بناء على درجات تصنيف الوكالات الدولية لمخاطر الائتمان التقليدية) على هذه الديون المضمون تسديدها من واشنطن حال فشل الدول المستدينة من تسديد القرض. وتسهل هذه الضمانات أيضا لمصر أن تصدر سندات حكومية بالدولار والعملات الأخرى (بنسبة فائدة منخفضة مقارنة بمثيلتها طبقا للتصنيف الائتمانى المستقل)، ويشجع ذلك المستثمرين على دخول سوق المال المصرية، وضخ العملة الصعبة فى الجهاز المصرفى الرسمى. وتتمتع مصر من قبل بضمانات قروض حكومية أمريكية بلغت مليارى دولار عام 2005 لتعويض مصر عن خسائرها الاقتصادية التى لحقت بها نتاج الحرب الأمريكية على العراق. وضمان القروض فى الوقت ذاته يعد آلية لتحقيق واشنطن لأهدافها مع الدول المستهدفة بدون أن تستثمر مواردها بصورة مباشرة. ولم يسبق لأى دولة منحتها واشنطن هذه الميزة الفشل فى تسديد الديون التى حصلت عليها بهذه الضمانات.
***
تفاءلت القاهرة بقدوم ترامب وبالغت فى توقع إعادة إدارته لطريقة تمويل شراء الأسلحة المفضل لصالح الحكومة المصرية والذى أوقفه أوباما، وهو الذى حرم مصر من إمكانية فتح خط ائتمان يسمح بالدفع الآجل، وهو ما يسمح بتمويل صفقات عسكرية كبيرة تتخطى قيمتها إجمالى قيمة المساعدات فى عام واحد، وهو ما أعطى مصر ميزة التعاقد والدفع اللاحق. وبالغت القاهرة فى تفاؤلها وذهب البعض لتصور إمكانية أن يزيد ترامب مقدار المساعدات العسكرية البالغ 1.3 مليار دولار سنويا، وأن يُسمح لمصر بالحصول على أسلحة أكثر تطورا وأن يجرى تسلمها بطرق سريعة. إلا أن ذلك لم يحدث وأبقى ترامب على نفس مستوى المساعدات والتى تشترط بصفة عامة ضرورة التزام بعلاقات استراتيجية مع واشنطن، وأن مصر تلتزم بتعهداتها تجاه إسرائيل وخاصة معاهدة السلام الموقعة بين الدولتين، ولم يعد ترامب العمل بنظام الدفع الآجل.
أما المساعدات الاقتصادية فقد نص مشروع الميزانية على تخصيص 35 مليون دولار لتمويل برامج تعليمية، منها ما لا يقل عن 10 ملايين دولار للمنح الدراسية بالولايات المتحدة. ونص أيضا على ضرورة تخصيص برامج لتنمية سيناء، وعلى أن تغير محاكم القضايا الجنائية بالقاهرة حكمها الصادر فى 6 يونيو 2013 ضد المنظمات الأمريكية والعاملين فيها.
واشترطت الميزانية الجديدة حجز 15% من قيمة المساعدات العسكرية إلى أن يقر وزير الخارجية ويشهد أن مصر تحقق تقدما فى مجال حقوق الإنسان والديمقراطية، وتحمى الأقليات الدينية، وحقوق النساء. وعلى أن يشهد كذلك أن مصر تحمى حريات التعبير والتجمع والتظاهر السلمى، وتمكن منظمات المجتمع المدنى ووسائل الإعلام من القيام بدورها. واشترطت كذلك شهادة الوزير على أنه تم الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ومنح المعتقلين حقوقهم طبقا للقانون. كذلك اشترطت شهادة وزير الخارجية على قيام مصر بإخضاع رجال الأمن منتهكى حقوق الإنسان للمساءلة القانونية، وعلى أن تسمح مصر للولايات المتحدة بالتحقق من طريقة صرف وإدارة ومتابعة برامج المعونات الاقتصادية.
وكما الحال فى عهد أوباما، سمح مشروع الميزانية لوزير الخارجية التغاضى عن النقاط السابق ذكرها لضرورات تتعلق بحماية الأمن القومى الأمريكى ويقدم الوزير تقريرا بذلك خلال 90 يوما من تاريخ اعتماد هذه الميزانية.
***
مبادرتان مصريتان اثنتان نالتا ثناء دوائر صنع القرار فى واشنطن، وساهمت إلى حد ما فى تقبل واشنطن للنظام الجديد فى مصر. الأولى تتعلق بمبادرة السيسى الداعية «للإصلاح الدينى» ومحاربة الفكر المتطرف. والثانية تتعلق بإقدام نظام السيسى على توقيع اتفاقيات استدانة مع صندوق النقد الدولى بقيمة 12 مليار دولار يصاحبها تخفيض وإعادة هيكلة سياسات الدعم الحكومية. وهكذا يدعم ترامب النظام المصرى ويُمكنه من الإقدام على المزيد من الاستدانة من الخارج فى الوقت الذى تبذل فيه القاهرة جهود كبيرة لتعظيم الاستدانة الدولية للتمويل أملا فى تحقيق نجاحات شكلية مؤقتة، على أن يلقى بالعبء إلى الأجيال القادمة التى عليها تسديد ما يقترضه النظام المصرى فى الوقت الرهن.