البطالة فى عالم تقطعت أوصاله
مواقع عربية
آخر تحديث:
الإثنين 4 مايو 2020 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع «على الطريق» مقالا للكاتب «الفضل شلق»....جاء فيه ما يلى:
تقطعت أوصال العالم. حصل شبه انهيار كامل للمنظمات الدولية خاصة التى لا تخضع للولايات المتحدة مباشرة. يدور نقاش طويل حول المعلومات الصادرة من الصين، بلد المنشأ فى بداية انتشار الوباء، عن إخفاء معلومات. ساعدتها فى ذلك كما يُقال منظمة الصحة العالمية. وليس الهدف هنا تحسين هذه المنظمات، بل الامتناع عن المساهمة فيها من أجل تطويعها وتدجينها. لم تقصّر الصين فى ذلك. اعتبرت مؤخرا أن كل تقرير يجب أن يخضع لرقابة السلطة السياسية بعد أن يتم تحكيمه لدى الأقران العلميين. أمر يبعث على الشك حول نوايا حكومة الصين. فى جميع الأحوال، تتدخل «السياسة» بشكلها الردىء فى العلم. ذلك ما يعتبر محاولة لاحتواء النتائج التى يفترض أن تكون موضوعية وحيادية.
لا يمكن الدفاع عن حكومة الصين ولا عن حكومة أى دولة أخرى. كلها نيوليبرالية، ورأسمالية، واستغلالية. كلها تهين كرامة شعوبها، بما فى ذلك الصين. لذلك ليس مهما حجة أى طرف حول من هو الأحق. هم فى الأصل شبكة استغلال للبشرية. تعانى هذه الشبكة خلافات داخلها. هو صراع ضمن البيت الواحد، ضمن الطبقة الرأسمالية ذاتها.
لا نعرف إذا كانت جرثومة طورت فى مختبر (صناعيا) أو نمت فى البرية (تلقائيا). هناك منذ شهور حملة غربية مترافقة حول انتشار الوباء على نظام التغذية فى الصين، وعشق النخبة منهم لأكل أنواع من الحيوانات المتهمة بهذه الجرثومة وغيرها. هناك شىء آخر. تتكتّم الصين حول المعلومات الطبية والعلمية والوبائية الصادرة عنها. كل ذلك يضعها موضع الشك والتساؤل.
الأنكى أن جميع الحكومات تتحفّز لفتح الاقتصاد رغم عدم انتهاء هذه الموجة من فيروس الكورونا. لا نعرف نتائج ذلك على صعيد الإصابات وأرواح البشر. الحكومات لا تعرف. العلماء ما زالوا فى طور البحث عن دواء وعن طعومات. لكن الحكومات لا يهمها ذلك. هى بين خيار اقتصادى يدعو لفتح الأعمال وذلك يمكن أن يؤدى إلى نتائج غير معروفة على صعيد زيادة الإصابات والحالات القاتلة. الخيار الثانى استمرار الحجر الطوعى مما يمكن أن يضر بالاقتصاد ضررا أكثر مما هو فيه. الخيار إذن بين أرواح الناس والاقتصاد. فى نظام يهمه الاقتصاد كأولوية من أجل الربح، لا بدّ أن ينتصر مبدأ الربح على مصير الأرواح. مالتوسية فجة ليس لديها ما يبرر الوجود البشرى إلا كونه هناك لإنتاج القيمة وتكديس الثروات لدى نخبة قليلة من الرأسماليين الذين يصادرون الربح كجزء من القيمة (التى ينتجها غيرهم). ما زال أرباب السلطة فى كل مكان لا يملكون ما يواجهون به الوباء سوى أن يبلغ الحد الأقصى ويتراجع تدريجيا نتيجة حدوث مناعة تلقائية لدى الناس.
***
الرأسمالية العالمية لا تهمها أرواح الناس. هؤلاء أساسا وفى نظر الرأسمالية كمّا هائلا من الناس الذين لا لزوم لهم. المسنون عبء على الاقتصاد. أعدادهم كبيرة فى البلدان المتقدمة. الشباب أعدادهم كبيرة من حيث تضخم أعداد العاطلين عن العمل من الشباب. عشرات الملايين من العاطلين عن العمل قدموا طلبات للتعويضات. الصناعات والزراعات إلى حد كبير لا تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة، ومعظم العمال ذوى الأجور المنخفضة هم فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. كان مريحا للنخبة الكبرى أن لا توجد هذه الجحافل، أما أن يتكفل الوباء بإماتتها فسيكون أمرا يروق للنخبة الحاكمة التى تفتح الاقتصاد وتترك الوباء يتفشى، حتى تتنصّل من المسئولية وتترك الموت يحصد الأرواح. ليس أسهل على الرأسمالية الكبرى أن تفتح الاقتصاد. مما يؤدى إلى تراكم الأرباح والثروات، وأن تترك الوباء لمن هم أهل لمواجهته.
قتل امرئ فى غابة جريمة لا تغتفر … وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
رصدت أموال هؤلاء لمساعدة المنكوبين بالوباء. الفتافيت سوف تذهب إلى الطبقات الدنيا، والقسم الأكبر سوف يذهب لدعم الشركات الكبرى. مع ضرورة تذكّر ما حدث فى أزمة عام 2008 المالية: انتقاء الشركات الكبرى، والمطيعة. بعض الشركات الكبرى التى لم تطع تركت فى سبيلها إلى الإفلاس.
الاقتصاد الرأسمالى النيوليبرالى يؤمن بخرافة السوق، وأن «اليد الخفية» تنظّم السوق، وأن السوق تنظّم نفسها بنفسها. والرأسمالية تصيبها أزمات تتكرر مع الدورة الاقتصادية، أو ما يسمى دورة الأعمال من توسّع إلى انكماش والعكس. الانكماش الآن كبير والعبء الأكبر على الدولة. أصحاب الرساميل الكبيرة ومالكو الشركات العابرة للدول لا يهمهم الأمر. فى الحقيقة لا يهمهم مصير البشر وفقرهم وإفقارهم. لذلك يشك الكثيرون فى الإحصائيات المعطاة حول المصابين والمقتولين بسبب الوباء. ومن غير المستغرب أن تتلكأ الشركات فى صنع الأقنعة الواقية، وفى الصنع الأدوية والطعوم وآلات التنفس. من يقتنع بأن الولايات المتحدة لا تستطيع صنع ما يكفى من الكمامات لحماية الجسم الطبى؟ على كل حال، الكل يعلم أن الإصابات تطال الزنوج بنسب أعلى بكثير من البيض، وأن الأطباء والممرضات وبقية الأجهزة الطبية المستوردة (المهاجرة) من الخارج يوضعون دائما فى المواجهة. لا ضير على رأسمال البلاد إذا أصيب هؤلاء. فهم ذوو جلدة سمراء يمكن الاستغناء عن أصحابها.
عندما كانت العولمة هى دين العصر قبل الوباء (والأزمة الرأسمالية الراهنة) كان التفاهم مع الصين ضرورة الضرورات. كانت الصناعة الأمريكية والأوروبية بحاجة لأيد عاملة رخيصة ومضطهدة فى الصين وبقية آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. مع الروبوت لا لزوم لهذه الأيدى العاملة. ويصر القادة على الجانبين على الاتهامات والاتهامات. يريدوننا الابتعاد عن الظن بأن هذه الأيدى العاملة (الرخيصة والمضطهدة) لم تعد لازمة ما دامت الرأسمالية لديها ما يحل مكانها؛ وبذكاء أيضا مع تطوّر ما يسمى الذكاء الاصطناعى.
لا لن تعود الأمور إلى طبيعتها. ببساطة ليس هناك طبيعة معطاة للرأسمال. هو يتطوّر حسب مبدأ الربح وتراكم الثروة وحسب. هل دخلنا، أو سندخل، فى مرحلة تعود الصناعة من العالم المنكسر إلى البلدان الصناعية المتقدمة التى بدأت بتدمير المنظمات الدولية (منظمة الصحة العالمية وغيرها من مؤسسات الأمم المتحدة)؟
سيعود الرأسمال إلى تمركزه. المشكلة فى الاستهلاك. الرأسمال يلزمه الناس لمستهلكين. مع إفقارهم لن يكونوا مستهلكين. هذا تناقض أساسى فى بنية ومنطلق الرأسمال. «الحل» الوحيد هو الدين. تفرض الرأسمالية على فقرائها وفقراء العالم، بما فى ذلك دولهم، المزيد من الديون، كما دأبت تفعل منذ الثمانينيات، بل منذ القرن التاسع عشر. وهى أى الرأسمالية مزودة بوسائل العنف لفرض ذلك. ما كانت أزمات ديون دول العالم الثالث وأفرادها إلا مفتعلة. الاستدانة فى سبيل الاستهلاك. تراكم الدين ثم تزايد التراكم الرأسمالى لا بواسطة السوق بل بواسطة وسائل العنف. تراكم الثروات، ازدياد أرباح، بواسطة النهب ونزع الملكيات، أو ما يسمى الخصخصة، وعودة إلى التراكم البدائى بانتزاع الملكية. وفى هذا تطبيق لمبادئ الرأسمالية الأساسية، وأهمها التراكم البدائى باغتصاب الملكية.
لم يتراكم الديْن على بلدان العالم الثالث لأن بلدانه أرادت الاستدانة، بل لأن الاستدانة فرضت فرضا. الديْن هو فى صلب النظام الرأسمالى، فى صلب تكوينه منذ أن بدأ قبل عدة قرون. موجة جديدة من الدين حول العالم. بقى لدى البشرية شىء أو أشياء يمكن نهبها لاسترداد الديْن أو لخدمته. بكل ما أوتى من قدرة على النفاق، يطرح ماكرون إلغاء خدمة الدين على دول إفريقية. هذا فى حين أن أصول الدين مشكوك فى الطريقة التى حصلت بها، وفى الإنفاق الذى تم على أساسها، وفى الأهداف المعلنة وغير المعلنة لتراكمها. التشليح بالديْن وسيلة قديمة جديدة. فى العالم القديم كان من يتخلف عن وفاء الديْن يُحال كى يصير عبدا لصاحب الدين. جيوش الغرب وأساطيله المنتشرة حول العالم كفيلة بذلك. الديْن يسترد وإلا…
***
مع تفكك نظام العالم، ستُرمى العولمة فى سلة المهملات. وسيحيل مكان الدبلوماسية، والحوار والسياسة، ميل للتنافس التجارى القائم على الحماية الجمركية. حرب جمركية كما كان الأمر عليه بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. علينا أن نذكر أن الانكماش الكبير الذى حصل بعد أزمة 1929 لم يكن له حل إلا بالحرب العالمية الثانية التى أدت إلى زيادة الإنتاج الحربى وتخفيض مستوى البطالة.
رأسمالية دون عنف أمر لا يمكن تصوره. العودة إلى الهيمنة والسيطرة من طرف واحد هو أمر اليوم. لا تسمح الرأسمالية الكبرى ودولها بالتجارة الحرة وإلغاء حرب التعريفات الجمركية إلا عندما تكون هناك سيطرة قطب واحد على العالم. المنافسة مع دول متقدمة أخرى تجر إلى حروب كما أدى الأمر إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. يبدو أنهما وما بينهما من عشرين عاما، كانتا حربا واحدة. صارت الولايات المتحدة قطبا واحد بعدهما. وبقى الاتحاد السوفيتى يلهث وراءها، إلى أن سقط فى 1989. هل سوف يحدث أمر مماثل مع الصين التى حاولت على مدى السنوات الماضية أن تصبح قطبا ثانيا؟ يبدو أن التحرك ضد الصين قد بدأ؟
بعد الكورونا سيكون صعبا حل مشكلة البطالة التى سوف تبلغ المليارات من البشر. سوف يطالب هؤلاء بحقهم فى العمل والحياة. بمقدار ما تمارس الأنظمة الحاكمة العنف ضد هؤلاء. لن يكون متاحا لهؤلاء سوى الارتداد لاستخدام العنف. يعنى الأمر فوضى تعم العالم. الفوضى لا يمكن احتواؤها إلا بالقمع. الكورونا فجر أزمة حادة فى النظام العالمى الرأسمالى. الأزمة هى بين الدول أركان هذا النظام، وأخرى بين حكومات هذا النظام ومجتمعاتها. لن يعود النظام الرأسمالى إلى سابق عهده ولن يكون الحل لأزمته إلا بإسقاطه. دون ذلك أهوال. إذ كيف يسقط النظام دون أن يكون لخصومه مشروع أممى تدافع به البشرية عن وجودها. وستكون المواجهة بينهما شديدة العنف والدموية. هذا ما توقعه، أو توقع شيئا مشابها له، بعض قادة النظام والعارفين بشأنه.
النص الأصلى:
https://bit.ly/2YsKYbX